*قصة خبرية، الرؤية- سمية النهبانية
استيقظ أنيس ذات صباح وأشعة الشمس تداعب وجهه عبر نافذة الغرفة منبئة بيوم استثنائي.
"بم التعلل؟ لا أهل ولا وطن"؛ كلمات من إحدى قصائد المتنبي تقافزت من أعماق ذاكرته، حاول تذكر بقية شطر البيت فرحا لكنه لم يستطع، أرهق ذاكرته لاستعادة ما فقده بتركه للقراءة دون جدوى، وكم انتابه الحزن حينما أدرك أنه سمح لمتاهات الدنيا أن تنسيه رائحة الكتب وملمس أوراقها المميز.
"بم التعلل؟ لا أهل ولا وطن..."، ظل يعتصر ذهنه محاولا التذكر.. أين أنت يا متنبي؟
أنيس.. هذا الأربعيني، ولد -كحال أغلب أبناء جيله- في بيت لم يذق لذة القراءة.. إلا أنه نشأ وفي طبعه ولع وشغف بالكتاب.
نهض من فراشه للتنقيب عن ديوان المتنبي، توجه صوب غرفة المعيشة فرأى زوجته قابعة في أحد أركانها، تحيك رداءً لابنته الصغرى وهي تتابع أحد البرامج التليفزيونية. حاول أنيس الاستنجاد بزوجته لاستحضار الشطر الضائع من بيت المتنبئ، ولكنها لم تعره اهتماما..!
وبدت عليه علامات الأسى، وتذكر كيف أن القراءة كانت تمنحه شعورا مختلفا يخلق له عالمه الخاص وسط هذا الكون، وكيف كان ينظر للأمور من زاويا متباينة بتباين قراءاته وانتقاله من بستان كتاب إلى حديقة آخر.
انتابته الحيرة وهو يعصر شتات ذاكرته مجددا، وسيل من الاسئلة يجتاحه: لماذا ننسى أشياءنا الجميلة في خضم اللهاث وراء هموم الحياة اليومية؟
تمتم في سره كَرّة أخرى محاولا استعادة "الشطر المفقود"، إلا أن الذاكرة لا زالت على عنادها ولم تَجُد عليه بحرف.
طفق أنيس يقلب في أشيائه القديمة عسى يجد بين الركام قصاصة أو مخطوطة تنقذه من ورطته الحالية. وهو يدرك في قرارة نفسه أن الكتب التي قرأها خرجت من الغرفة قبل أن تفر من ذاكرته.
وفجأة صاح بعبارة أرخميدس: وجدتها، وجدتها..
هرع أنيس إلى مكتبته المفضلة "بوردرز" في مركز سيتي سنتر السيب، ودلف إلى المصعد الكهربائي المؤدي إليها تسبق أشواقه خطواته، وكم كانت دهشته كبيرة وهو يجد أن المكتبة قد "هربت" هي الأخرى من مكانها، ليقوم في موضعها محل لبيع دمى الأطفال.. ورغم خيبة أمله، ضحك في سره للمفارقة وهو يستوقف المتسوقين متسائلا: إلى أين انتقلت المكتبة؟ إلا أن لا أحد كان يملك الإجابة على هذا السؤال البسيط.
جال أنيس في أنحاء مدينته باحثا عن مكتبة ليتمكن من إكمال بيت الشعر، إلا أن ظنه خاب مرة أخرى، فحتى القائم من المكتبات تحول إلى "دكاكين" لبيع القرطاسية لهثا وراء الكسب السريع!
تساءل هذه المرة جهرة: غابت المكتبات، فأين المسؤولون عن الثقافة؟ وما بال الجميع قد هجروا القراءة لدرجة أنهم لم يعودوا يفتقدون المكتبة.. أو يشعرون بغيابها؟
والتفت إلى نفسه مؤنبا: متى كان آخر عهد لك بالكتاب؟
فتوارى خجلا من نفسه، لأنه لم يعد يذكر من فرط طول المدة!
وفي غمرة موجة الخجل تلك، قفزت إلى ذاكرة أنيس أبيات لذات المتنبي، تذكرها بمنتهى الوضوح هذه المرة: "وما انتفاع أخي الدنيا بناظره/ إذا استوت عنده الأنوار والظُلَمُ".
وأردف مرددا لنفسه: حقا يتساوى النور والظلام في فكر أمة لا تقرأ!
*المصدر: جريدة الرؤية العدد رقم 597 الصادر يوم الأربعاء الموافق 4 يناير 2012م
اريداقرة القصيدة لان اتمثل الواقع
ردحذف