الخميس، 14 أبريل 2022

أيها الموت لم اختطفت الأجمل والأنقى؟

 

في رحيل عبد العزيز الفارسي 

 



بقلم سماء عيسى- شاعر وناقد سينمائي عماني

 

 


لن تجد الاشجار من يتحدث اليها بصمت، ومن يعشق تآلفها الجميل مع الكون.

لن تجد الطفولة من هو طفل في البكاء والضحك واللعب وحصص الدرس، يصادفك في الطريق رجل المحبة وصدق المشاعر فتبكي معه وتضحك ثم ترحل معه دون عودة إلى البحر.

لن يأخذك الحنين ثانية إلى الطرقات المهجورة وإلى الصمت وإلى بكاء الامهات وإلى دموع المشردين وإلى شباك الصيادين الفارغة الممزقة من الحنين.

لن تأخذك غير الوحدة، لن ينام معك غير الرماد، لن يبكي معك حزنا وفجائعية غير البحر أنت الذي تصمت لتبكي، تتحدث لكي تصمت العصافير شوقا، تنظر بعينيك الحزينتين إلى الشمس لتقول لنا الوداع.

من القادر فينا على وداع النبلاء، من القادر على حفظ خطواتهم في الصحراء، من الذي سوف يتبع طرق القلب إلى الحب وطرق النهار إلى الليل، وطرق الليل إلى أكواخ الصيادين ساعات الفجر الاولى.

ظلت الحمامة تنوح باكية شجرة الغياب، واختبأ الدمع الذي جففته انهار الموت بعد أن غرس انيابه في حواري الدهشة الأولى.

أنا قريب منك وبعيد منك في آن، قريب من أجمل القبلات وأعذبها، قبلتك الأخيرة على جبيني، قبلتك الحانية التي تنبؤ بالرحيل وبالغياب. بعيد عنك لأنك في الموت الذي تحدث إلينا ليس عنك، وعندما رحلنا عائدين إلى منازلنا ابتسم في دهاء واختطف أجمل ما فينا، عندما غدر بالطفولة وبحواري البراءة الاولى وبشباك الصيادين الممزقة وبحكايا الامهات، واختطف في صمت نبل حضورك معنا.

هذا الثراء المدهش في الحضور، المدهش في الغياب، المدهش في الصمت، هذا الحنين الباذخ إلى تراب الارض، هذا النقاء الصوفي الذي ظل يرنو علينا دون أن يتحدث، بعينين دامعتين وبقلب يعلن البذخ في الحب والبذخ في كسر العتمة والبذخ في سطوع شمس النهار.

هل لذلك جاءت مرارة رحيلك لتعلن لنا وقف جريان الماء في العطش، وقف زحف البغضاء في الروح، وقف اندثار الإنسان في الكون، بعد أن لوث الإنسان الكون بالمعصية وزرع به شجر الخراب ونبتة المرارة وعقوق الأبناء إلى قراهم البعيدة في سواحل البحر.

لكنك في هذا الغياب وردتنا الاولى، في هذا الغياب أنت الشجن والحزن، دمع الأطفال وبكاء الامهات، وحنين القوارب إلى العودة، فقط لتلقاك وتبتسم لك تلك النضارة الاولى برؤية الحياة في ابتسامتها، ولو لمرة أخيرة فقط قبل فاجعة رحيلك، الرحيل الذي لم نعرف رحيلا مباغتا مثله، انقض ليرحل بأجمل ما نحمل، وبأكثر أبنائنا حزنا وصمتا.

هذا الحديث المولع بالشقاء الطفولي العذب، هذا البكاء الدائم، هذه الرياح البحرية التي تأتي لتغيب، تصمت لكي تهدأ ثم لتزحف ثانية لتخطف ما أتت به من الحب والجمال الروحي الأخاذ، ذلك الجمال المرسوم في الحكايا وأنت تسردها لنا كما تسرد الامهات حكايا الأطفال قبيل النوم. فجأة باغت الموت هذا السارد العُماني الجميل الأخاذ، سارد حكايا القرى وعذاب الفقراء وندم الصيادين، سارد زحف التشوه إلى الروح، السارد الذي تحدث إلينا باكرا وكان استماعنا  إليه متأخرا، ثم عندما عدنا لنلقاه، باغتنا بفاجعة رحيله، إلى أين هذا الرحيل المباغت يا ابن الشمس التي تشرق وتغيب في السواحل بصمت، كما الموج البحري الذي انتبه أخيرا لرحيل عاشقه الذي لن يبصر النور ثانية في الطفولة وعذوبتها، تفضي الحكايا إلى الخسائر دوما كما تفضي الينابيع إلى الجفاف، ثم يأتي من يتحدث عن غياب الحكاء، لا لكي نخبره عن الموت، بل لنقول له غدا يعود الطفل إلى  السرد الموجع، وتعود الحمامة إلى النواح على الايك، وتعود أكواخ الفقراء فجرا تفتح أبوابها  لموج البحر، وقد زحف إلينا، ليعلن بداية موسم صيد لا نهاية لها، ومع كل بداية هناك نهاية، غير نهايتك أنت  أيها السارد الصوفي الذي تجولت بين أعماقنا طويلا، ثم صمت، وانتظرنا مع صمتك أن تعود كما تعود أمواج البحر الهادئة إلى الشواطئ المهجورة بالقرى الساحلية التي نزحت منها، التي عدت إليها، ليتوارى معك دفء الحكايا، بعد هذا الرحيل الذي باغتنا، حقا تتوارى موجة دافئة في حنو عطائها علينا.