الثلاثاء، 29 يونيو 2021

فهمي جدعان وذكرياته في عُمان


 


بقلم عبد الله العليان

قبل عدة أشهر نشر الأكاديمي والباحث الفلسطيني المعروف د. فهمي جدعان، مذكراته الشخصية التي حملت عنوان "طائر التمّ.. حكايات جني الخُطا والأيّام"، تحدث فيها عن طفولته، وعندما خرج مرغم هو وأسرته ومئات آلاف من الفلسطينيين من أرضهم ومنازلهم وحقولهم مجبرين بسبب الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، بعد حرب عام 1948.

سرد فهمي جدعان في هذه المذكرات، قصة الهجرة من بلدته "عين الغزال" بمدينة حيفا، إلى سوريا؛ التي احتضنت المهجرين الفلسطينيين قصرًا من أرضهم بكل تقدير ورعاية، وتمت معاملتهم وكأنهم من الشعب السوري في جوانب عديدة من الامتيازات، واستقر هو وأسرته في هذا المكان الذي أقاموا فيه في أحد أطراف مدينة دمشق في الأربعينات، ثم أصبح اسم هذا المكان بعد عقد بعد ذلك بمسمى "مخيم اليرموك" في خمسينات القرن الماضي.

درس فهمي جدعان في سوريا في مرحلة التعليم العام، حتى أنهى الثانوية العامة، ووجد فرصة من إحدى المنظمات الإنسانية للابتعاث في فرنسا للدراسة الجامعية في التاريخ، ثم واصل دراسته العليا أيضًا في فرنسا نفسها في إحدى أرقى الجامعات الفرنسية (السوربون)، في دراسة الفلسفة والفكر الإسلامي، وقد التقيت بالدكتور فهمي جدعان على هامش المؤتمر التحضيري للقمة الثقافية العربية في بيروت 2010، وكنت أنا ود. عبيد الشقصي مشاركيْن في هذا المؤتمر، وقد جرى بيننا حديث طويل حول بعض مؤلفاته وأرائه الأخرى الفكرية والفلسفية، والفترة التي قضاها في السلطنة، أستاذًا جامعيًا، وعميدًا لكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس.

وقال لي إنه قضى في السلطنة عدة سنوات، وهي سنوات من أفضل وأسعد أيام حياته في عُمان مع أسرته، وبالأخص في مدينة مسقط، وكان انتقاله من السلطنة- كما قال فهمي جدعان- بسبب بعض الظروف، ويُضيف: "تمنيتُ أن لا تكون حدثت آنذاك، وكانت سببًا في تقديم استقالتي من جامعة السلطان قابوس، ولو أتيحت لي الفرصة، لرجعت إلى عُمان مرة أخرى، وذلك لسعادتي بهذا البلد وأهلها، فعُمان بلد يتمتع بأجواء تستطيع أن تشعر بالسعادة، لما تراه من هذا الشعب من احترام وتعامل راق، وهذا ما جعلني، أسعد بالسنوات التي قضيتها في سلطنة عُمان حقيقة، وإن كانت سنوات قليلة".

في مذكرات د. جدعان التي أشرت إليها آنفاً، تطرق إلى فترة عمله في جامعة السلطان قابوس، وعلاقته بالعمل الأكاديمي، وعلاقاته الشخصية مع الأكاديميين العُمانيين وغيرهم من الأكاديميين العرب في هذه الجامعة، الذين تعامل معهم وشعر منهم الأخوة والألفة خلال تلك الفترة، وأعاد الحديث مرة أخرى عن تلك الأيام التي لم يعشها في بلدان عربية أخرى، عمل فيها أستاذًا جامعيًا، ومما قاله فهمي جدعان عن عُمان والعُمانيين في فترة إقامته: "إنني لم أشعر بأن البيت العُماني مقفل في وجه المغتربين العاملين في السلطنة، مثلما قد لاحظت ذلك في- دولة أخرى- حيث يندر أن تستقبل عائلة- من هذه الدولة- أحدًا من الوافدين في بيتها. أما هنا في السلطنة فكانت البيوت مفتوحة مرحبة دون تحفظ، من أعلى القمة إلى أقراني في الكلية".

ويستعرض د. جدعان في هذه المذكرات أسماء الأشخاص من المسؤولين والأكاديميين والشخصيات العامة التي كانت له علاقة وطيدة، ومع أنه كما قال قضى عامين في هذه الجامعة، لكن ذاكرته تستحضر تلك الفترة، وكأنها سنوات طويلة، وقال إنها:"أجمل سنوات عمري". بالقياس إلى الصداقات الكثيرة والرائعة التي حصلت في عُمان.

ويستطرد د. فهمي جدعان تلك الأيام الذكريات الجميلة التي عاشها في عُمان وكيف اتسمت بروح لا توصف من المحبة والمودة من العلاقة، فيقول :"فيها عرفت النقاء والصدق والرعاية والوفاء والكرم والخصال الإنسانية الاستثنائية، التي لم أعرفها في أي مكان آخر. في عُمان عرفت صداقات حقيقية غير عابرة، صداقات ترقى إلى معاني الـ(فيليا) القديمة، صداقات تغمرها المحبة والمودة التي لا تعرف الخبث والخداع والضغينة. حين أعاود النظر في هذا كله وأسأل نفسي لماذا تخليت عنه فجأة وعدت إلى المكان الذي قدمت منه، يصيبني الذهول والمرارة والأسى، وأغضب من نفسي ولا أغفر لها ما اقترفت من زلل".

ويذكر د. جدعان تلك الليلة التي أتى فيها من الأردن، لتقديم استقالته من جامعة السلطان قابوس، للعمل في جامعة البتراء بالأردن، فيقول: "كان نهارًا عصيبًا ذلك النهار الذي طلبت فيه مقابلة رئيس الجامعة- وكان آنذاك الدكتور سعود الريامي- وتوجهت إلى مكتبه في إدارة الجامعة. وكان الحزن يتلبسني، والمرارة تملأ نفسي، والشعور بالذنب بل بالخيانة وقلة الوفاء، يحتل كل كينونتي.. كنت أحسُ بأنني أغدر، وبأنني أفعل ذلك للمرة الأولى في حياتي". وأشار د. فهمي جدعان في هذا اللقاء مع رئيس الجامعة، إلى أنه طلب منه أن يبقى في عمله في الجامعة، وقال له الريامي: "أنت هنا آمن ومرتاح والجامعة في حاجة ماسة إليك.. ولا أنصحك بالاستقالة". وقال له: "لقد وعدتهم.. ولا يمكن أن أتراجع".

ويذكر فهمي جدعان هذا الموقف الصعب والمؤلم بعد إصراري على تقديم استقالتي دون مُبرر وبتسرع غير معقول فيقول: "حين خرجت من مكتب الدكتور سعود الريامي اندفعت من عينيّ دفقة من الدموع.. ومن نفسي موجة عاصفة من المرارة.. والفقد.. والتعلق.. إلى بلد أحببته إلى درجة العشق وظل دومًا يحتل جزءًا عزيزًا من روحي، ومكانة خارقة في قلبي وفي وجداني".. وفي هذه المذكرات الكثير من الذكريات بين السرد المؤلم، والأيام الرائعة، وهي قصة عمر مفكر ومؤلف اتسمت أفكاره بالجدية والحفر المنهجي، قد نوافقه في بعضها وقد نختلف معه.

 

المصدر: جريدة الرؤية العمانية بتاريخ 29 يونيو 2021

 


الأربعاء، 23 يونيو 2021

مراجعة في رواية "أربطة"

 



د. سناء الجمالي- أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية


صدرت رواية "أربطة" للكاتب الإيطالي دومينيكو ستارنونه في عام 2014، وفازت بجائزة "ذا بريج للكتاب" في عام 2015، وصنفتها جريدة "الصنداي تايمز" البريطانية كأفضل رواية في عام 2015، ونشرت باللغة العربية من قبل دار الكرمة في مصر في عام 2019، حيث ترجمتها المترجمة المصرية القديرة أماني فوزي حبشي من اللغة الإيطالية إلى العربية.

يمكن لقارئ الرواية أن يفهم موضوعها ضمنيا من خلال الغلاف؛ فالغلاف يحمل صورة لحذائين كلاسيكيين قد تشابكت أربطتهما معا بطريقة معقدة، مما يوحي بأن أحداث الحكاية في هذه الرواية تدور حول موضوع كلاسيكي يحمل أكثر من وجهة نظر، ولكن كل تلك الآراء ووجهات النظر المتضاربة فيما بينها والمرتبطة، في الوقت نفسه، بمحور موضوع الرواية، تصل لنقطة تتعالق فيها ببعضها، وتتشابك إلى درجة يكون الانفلات من بعضها محالا.

رواية "أربطة" تنقسم إلى ثلاثة أقسام، يحمل كل قسم منها عنوانا، وعندما نبدأ في قراءة الرواية، نكتشف أن القسم الأول يعبر عن وجهة نظر "فاندا"، إحدى شخصيات الرواية، حيث يتمثل لنا صوتها بوضوح من خلال رسائل كتبتها إلى رجل، وهو الزوج، الذي هجرها تاركا إياها وحيدة مع طفليهما، وبمواصلة قراءة الرسائل نعرف أنه فعل ذلك من أجل امرأة أخرى وقع في حبها.

أما القسم الثاني فيحتوي على وجهة نظر الزوج "آلدو مينوري"، الشخصية الثانية في الرواية، ونجد أنه يعرض لنا حياته، مبررا أحداثها من وجهة نظره، وفقا لما أحس به آنذاك. أما القسم الثالث من الرواية فيحمل وجهة نظر ابنيهما، مع تغليب لصوت الابنة –"آنا"– ووجهة نظرها على صوت أخيها –"ساندرو"- الذي يخالفها الرأي في بداية حوارهما، ولكنه يعود ليتفق معها في نهاية الحوار.

وبعد قرابة أربعة أعوام من هجر "آلدو مينوري" لأسرته، نجده يقرر العودة إليها بأسلوب تدريجي، والحدث الذي يشجع "آلدو" في تنفيذ هذه الخطوة هو الحوار الذي دار بينه وبين ولديه في المقهى، حيث التقى بهما بعد مدة طويلة من انفصاله وابتعاده عن أسرته. كانت الأم قد اتفقت مع ابنتها "آنا" أن تسأل والدها ما إذا كان هو الشخص الذي علم أخاها "ساندرو" طريقة ربطه الغريبة لحذائه، وكان الهدف من طرح هذا السؤال وخلق حوار حوله بين الأطراف الثلاثة -الأب وولديه - هو إشعار "آلدو" بأثره العميق في حياة ولديه وأسرته، وهو ما كان –"آلدو" - بحاجة لأن يشعر به، لذا نجده وقد تشبث بالفرصة التي أتاحها له هذا النقاش مع ولديه؛ وهو نقاش يوحي بهشاشته الظاهرية مع احتوائه على معنى عميق يدل على مدى تشابك العلاقات الأسرية من الناحية العاطفية، بالرغم مما قد تظهره من ضعف. وهكذا، نجحت "فاندا" في استعادة حياتها الأسرية، بإتاحتها الفرصة التي مكنت "آلدو" من انتهازها للعودة إلى منزل الأسرة.

نستدل من تطور أحداث رواية "أربطة"، بعد عودة "آلدو" إلى أسرته، أن خيار العودة لم يكن صحيحا، فهو لم يتمكن من نسيان حبه لحبيبته "ليديا"، كما أن "فاندا" لم تتمكن من مسامحته على خيانته لها وهجره إياها، مما أدى بالأسرة إلى أن تحيا في جو من التوتر الدائم، الذي انعكس سلبا على حياة ابنيهما "ساندرو" و"آنا"، إذ قررا، في نهاية الجزء الثالث من الرواية، تدمير منزل والديهما أثناء سفر الأخيرين لقضاء إجازتهما؛ تعبيرا منهما عن رفضهما لنشأتهما، في ظل ظروف غير صحية من الناحية النفسية بسبب طبيعة علاقة والديهما المتشابكة والمعقدة.

يتوصل القارئ في نهاية الرواية، إلى قناعة مفادها: أن على  الإنسان، عندما يدير ظهره لمرحلة ما من حياته، مجتثا كل الروابط التي تربطه بها، ألا يعود إليها مرة أخرى في محاولة منه لإصلاحها، لأن العطب حينئذ يكون أعمق من أن يصلح؛ وهذا ما يرد على لسان "فاندا" في نهاية الجزء الثاني من الحكاية، وهو ما سيتكرر ذكره لاحقا في الجزء الثالث على لسان "آنا" بطريقة مغايرة وأكثر وضوحا،  أثناء حديثها مع أخيها "ساندرو"، حيث نسمعها تقول: "كنت أريد أن يكون أبي لي أنا وحدي، كنت أتمنى أن آخذه من ماما ومنك، لكنه لم يكن لأحد منا، يجلس هناك، إلا أنه لم يكن موجودا. كان قد تخلى عني وعنك وعن ماما، وفعل خيرا، هذا ما فهمته بسرعة ... بعيدا، بعيدا، بعيدا. كانت أمنا بالنسبة إليه، هي الحرمان من متعة الحياة، ونحن أيضا، أنا وأنت؛ لم يكن مخطئا، كنا بالفعل هذا الحرمان، الحرمان! كان خطأه الحقيقي أنه لم ينجح في أن يرفضنا تماما ... فبمجرد التصرف بطريقة تجرح فيها بعمق، بحيث تقتل، أو على كل حال تحطم إلى الأبد حيوات آدميين

آخرين، لا يجب مطلقا أن تعود إلى الخلف، لا بد أن تتحمل مسؤولية جريمتك إلى النهاية، فلا يمكن اقتراف نصف جريمة"؛ هذه هي الحكمة في العلاقات الإنسانية المعقدة والمتشابكة من الناحية العاطفية، التي توصلها نهاية رواية "أربطة" لقرائها عن طريق بنيتها الفنية المكونة من تعدد الأصوات، والكاتب يفعل ذلك بسلاسة وتشويق وبأسلوب نجح في جعله كاشفا عن أغوار النفس الإنسانية.  


المصدر: https://anwaar.squ.edu.om/blogs/2021/06/22/%d9%85%d8%b1%d8%a7%d8%ac%d8%b9%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%a3%d8%b1%d8%a8%d8%b7%d8%a9/

 


الثلاثاء، 22 يونيو 2021

بناء الجسور بين الأدب العماني والآداب الآسيوية

 




مسقط -العُمانية:

المتتبع لواقع الترجمة في السلطنة، يلتمس حركة تحاول بناء جسور من التواصل بين الأدب العماني والعربي وغير العربي في الوقت ذاته، فهناك العديد من الأعمال العمانية التي نُقلت إلى العالم من حولنا بلغات غير العربية، كما أن هناك أعمالا أخرى أضيفت إلى المكتبة الثقافية العمانية، سواءً بجهود مؤسسية أو حتى فردية، تعرفنا عليها منذ وقت طويل، وقد نلحظ انقطاعا في التبادل المعرفي مع الآخر القريب، وهنا نعني الشرق الآسيوي بما في ذلك الدول المطلة على المحيط الهندي.

فعلى الرغم من التاريخ المشترك مع شعوب هذه الدول وما تزخر به هذه الدول من أدب وتنوع ثقافي إلا أن أعمالها لا تزال بعيدة عن القارئ العماني بشكل لا يتمناه الآخر والأمر ذاته ينطبق على شعوب هذه المنطقة المغيّبة عن التعرف على الثقافة العمانية، هنا تنبثق بعض التساؤلات المفتوحة حول هذه القضية، ولأجل ذلك نستقرئ عددا من الآراء التي تبدو متناغمة في توجهاتها والمتمثلة في الدور الذي تقوم به المؤسسات المعنية بالترجمة والأفراد في السلطنة في نقل ثقافات الشرق الآسيوية إلى عُمان والعالم العربي كله، مع تساؤل حول سبب القطيعة بين القارئ العماني والإنتاج الثقافي في الدول الآسيوية المشار إلى موضعها أعلاه، مع عدم وصول تلك الثقافات مترجمة باللغة العربية على سبيل المثال، وهنا على وجه الخصوص نتساءل، ونقول هل نوعية الإنتاج وقيمته الثقافية والفكرية يعد سببا في هذه القطيعة؟ أم أننا لا نزال بعد لم نستطع اكتشاف ذلك الأدب الآسيوي بالصورة التي تشبع رغبات المثقف العماني والعربي على وجه الخصوص، وماذا عن تجسير علاقة التواصل المعرفي الفكري والثقافي بين تلك اللغات واللغة العربية؟ وهل هناك اهتمام من الآخر بمعرفة التجارب الثقافية العمانية َوترجمتها؟ تساؤلات أكثر من مشروعة يجيب عليها عدد من المختصين كالمترجمين والباحثين في شأن الترجمة في السلطنة وخارجها. يعلق المترجم والأديب والأكاديمي السابق الدكتور هلال الحجري، على تلك التساؤلات أعلاه بالقول: أعتقد أن الترجمة عندنا من اللغات الآسيوية وإليها فقيرة ولا تليق بحجم التواصل الحضاري الكبير الممتد عبر قرون بين عرب الجزيرة العربية ودول شبه القارة الهندية مثل الهند وبنجلاديش وباكستان، أو دول شرق آسيا خاصة الصين، أو جنوب شرق آسيا مثل تايلاند وماليزيا وإندونيسيا. وفقر الترجمة أو قصورها من لغات هذه الدول إلى العربية أو العكس، يعود إلى أسباب عدة؛ منها غياب المؤسسات المعنية بالترجمة، والنظرة الدونية إلى الثقافة بشكل عام وتغليب الاقتصاد عليها، وندرة تدريس اللغات الآسيوية في جامعات الخليج العربي والاقتصار على اللغة الإنجليزية، وقلة المثقفين الذين يجيدون الترجمة من هذه اللغات، إضافة إلى أسباب أخرى. ويقول الحجري في بيان : (يكفي أن أفصل القول في السببين الأولين ليتضح مدى الخسران الكبير الذي ينتج عن قصور الترجمة بين العربية واللغات الآسيوية. فغياب المؤسسات المعنية بالترجمة في دول الخليج وعُمان خاصة تسبب في إهمال نقل ثقافات الشعوب الآسيوية وآدابها إلى العربية وكذلك حرمان شعوب دول آسيا من الاطلاع على آداب الخليج العربي مهد اللغة العربية والإسلام. ولعل الطرف الآسيوي أقل ضررا؛ لأن انتشار الإسلام فيه منذ قرون نتج عنه اهتمام باللغة العربية ونقل للتراث الإسلامي إلى اللغات الهندية والصينية خاصة، وإن غلبت على هذا النقل علوم القرآن وعلوم الدين). ويفند الحجري سبب تلك القطيعة بين القارئ العماني والإنتاج الثقافي في الدول الآسيوية، مع عدم وصول تلك الثقافات مترجمة باللغة العربية خاصة إذا علمنا أن تلك القطيعة لم يكن سببها نوعية الإنتاج وقيمته الثقافية والفكرية؛ وهنا يقول: أما النظرة الدونية للثقافة وتغليب الاقتصاد عليها فهو أمر واضح خاصة في منطقتنا؛ وإلا كيف لنا أن نتصور العدد الهائل من الجاليات الآسيوية، الذي يكاد يفوق عدد السكان الأصليين أحيانا، ثم لا يكون منهم مترجمون يجيدون العربية ويهتمون بنقل آداب المنطقة التي يعيشون فيها ويعملون بها سنوات عديدة تكفي لأن تجعلهم فصحاء في اللغة! وقد يكون التقصير في تعليمهم العربية عائدا إلى دول الخليج التي لم تشغل نفسها بهذا الأمر ولم تهتم بإعداد برامج تثقيفية تسعى إلى تعليم الآسيويين العربية لغة وأدبا وثقافة. هذا فضلا عن أن الجامعات لدينا لا تكترث إلا نادرا بتدريس اللغات الآسيوية ولا يعنيها أن تكون الترجمة جسرا بين الثقافتين العربية والآسيوية. ومن العجيب مثلا أن ترى (المعهد البريطاني) له مكان في كل العواصم الخليجية وبفروع عديدة، ولا ترى مكانا فيها لـ(معهد كونفيشيوس) المتخصص في تعليم الصينية، أو أي معهد يدرس الأوردو وغيرها من اللغات الآسيوية. وحول تجسير علاقة التواصل المعرفي الفكري والثقافي بين تلك اللغات واللغة العربية، والاهتمام من الاخر بمعرفة التجارب الثقافية العمانية َوترجمتها يقول الدكتور هلال الحجري: تبقى هناك جهود فردية مخلصة لا يمكن إنكار دورها في تجسير الترجمة بين الثقافتين العربية والآسيوية. ويسعدني هنا أن أنوّه مثلا بما قامت به منظمة IDAM، وهي مؤسسة ثقافية اجتماعية تابعة للسفارة الهندية في مسقط، حيث بادرت في عام 2010
بتمويل ترجمة ونشر مختارات من الشعر العماني الحديث إلى اللغة المالايالامية، إحدى اللغات الرسمية في الهند، خاصة في كيرالا. وقد ترجم هذه القصائد فيلابوراتو عبد الكبير رئيس التحرير السابق لجريدة Madhyamam الأسبوعية في كيرالا وهو كذلك باحث في الأدب العربي والفكر الإسلامي، وتضمنت المجموعة قصائد متفرقة لعدد من الشعراء العمانيين المحدثين، وكان لي الشرف في اختيارها. ولأن الحجري كان قريبا من الباحث والمترجم الهندي فيلابوراتو عبد الكبير، يأتي هو الآخر ليقول كلمته في شأن واقع الترجمة والقطيعة بين القارئ العماني والإنتاج الثقافي في الدول الآسيوية، عدم وصول تلك الثقافات مترجمة باللغة العربية وهنا يوضح عبد الكبير: عند الحديث عما يتوجب على المؤسسات المعنية بالترجمة في سلطنة عمان فعله ودورها في نقل ثقافات الشرق آسيوية إلى العالم العربي فأرى أن الكُتّاب في السلطنة أدرى عنه من غيرهم.
ويضيف عبدالكبير: حسب المعلومات المتوفرة لدي أن للكاتبة العمانية أزهار أحمد سعيا مشكورا ولو كان بسيطا في هذا الصدد؛ حيث قامت بترجمة رواية (ما حكاه الصوفي) للروائي المالايالامي كيه. بي. (رامان أوني)، وذلك من نسختها الإنجليزية إلى العربية. ويعلل المترجم والباحث عبد الكبير أن سبب القطيعة لا يعود في رأيه إلى نوعية الإنتاج وقيمته الثقافية والفكرية، بل قد يعود إلى القصر من الجانب العماني أو العربي في اكتشاف الإنتاج الفكري والإبداعي في تلك المنطقة بالصورة التي يطمح إليها المثقف العماني أو العربي. ولأجل التجسير والتواصل علينا بناء الجسر بين تلك اللغات واللغة العربية ويجب أن يكون على المستويين، الحكومي ومستوى الكتاب في الجانبين. حسب تعبيره. ويشير عبد الكبير: هذا يعتمد على إعداد برامج مكثفة لعقد مؤتمرات يتمكن فيها من مشاركة الكتاب من الجانبين، وكذلك عقد مهرجانات ثقافية بحيث يتمكن فيها التبادل الثقافي من خلال مؤتمرات أدبية وملتقيات فكرية واستعراض فنون شعبية.
وعن الاهتمام الفعلي من الآخر في سبيل معرفة التجارب الثقافية العمانية َوترجمتها يقول عبد الكبير: ثمة اهتمام ولو كان خجولا، وقد تم نشر ترجمة الرواية العمانية (سيدات القمر) لجوخة الحارثية في لغتنا المالايالامية، إحدى اللغات المحلية في الهند، كما قمت أنا قبل هذا العمل بترجمة “مختارات من الشعر العماني المعاصر” التي اختارها الشاعر العماني د. هلال الحجري. وقد نقلت بعض القصص للكاتبة العمانية أزهار أحمد وقصائد للشاعر الكبير د. سيف الرحبي والشاعر إبراهيم سعيد، وكذلك تشغل بالي منذ فترة ترجمة (مذكرات أميرة عربية) للسيدة سالمة بنت سعيد. ويوضح: ليس لدي إلا نسخة من الترجمة العربية لكاتبة سورية، ولا أدري هل تحتاج الترجمة إلى موافقتها. ومن العقبات الحصول على موافقة المؤلفين على الترجمة. ولتسريع حركة الترجمة لا بد من بذل جهود جماعية على جميع المستويات.

وفي شأن واقع الترجمة ذاته، تأتي المترجمة العمانية رجاء اللواتية بالعديد من الإشارات المباشرة فهي تقول إن المتتبع لواقع الترجمة في السلطنة، يلتمس تلك الحركة التي تحاول أن تبني جسور التواصل بين الأدب العماني والعربي وغير العربي في الوقت ذاته، فهناك العديد من الأعمال العمانية التي نُقلت إلى العالم من حولنا بلغات غير العربية، كما أن هناك أعمالا أخرى أضيفت إلى المكتبة الثقافية العمانية، وبجهود فردية أو مؤسسية تعرفنا عليها منذ وقت طويل، إلا أننا قد نلحظ انقطاعا في التبادل المعرفي مع الآخر القريب، وهنا نعني الشرق الآسيوي إن صح القول، أو دول المحيط الهندي، فعلى الرغم من التاريخ المشترك مع شعوب هذه الدول وعلى الرغم مما تزخر به هذه الدول من أدب وتنوع ثقافي إلا أن أعمالها لا تزال بعيدة عن القارئ العماني بشكل لا يتمناه الآخر والأمر ذاته ينطبق على شعوب هذه المنطقة المغيبة عن التعرف على الثقافة العمانية، هنا تنفتح نوافذ لتساؤلات تطرح نفسها.

وعن دور الترجمة العمانية في نقل ثقافات الشرق الآسيوية إلى العالم العربي تقول اللواتية صراحة: لا يوجد دور كبير للترجمة العمانية في نقل ثقافات شرق آسيا إلى عمان أو العالم العربي. لكنها توضح سبب القطيعة بين القارئ العماني والإنتاج الثقافي في الدول الآسيوية المحيطة، وسبب عدم وصول تلك الثقافات مترجمة باللغة العربية عندما تشير: هي ليست قطيعة، بل يمكن أن نسميها عدم الدراية الكافية للقارئ العماني بالإنتاج الثقافي للدول الآسيوية المحيطة، ولكن حاليا دور النشر في الدول العربية بدأت في الترجمة بجهود مؤسسية من العربية وإليها ففي السعودية مثلا هناك مشروع ترجمة لكتاب الأديب الراحل غازي القصيبي إلى اليابانية ونأمل أن توجد مثل هذه الجهود في دور النشر العمانية فنحن أحوج الآن للتعرف على إنتاج هذه الدول وأن يتعرف المثقفون هناك على الإنتاج الأدبي العربي وعلى الأخص العماني المتنوع الزاخر من كتب وروايات وشعر ودراسات أدبية وتاريخية. وما إذا كانت المشكلة تتمثل في نوعية الإنتاج وقيمته الثقافية والفكرية والذي يعد سببا في هذه القطيعة وإننا لم نكتشف الأدب الآسيوي بالصورة التي يطمح إليها المثقف العماني والعربي على وجه الخصوص وهنا تقول المترجمة رجاء اللواتية: الأدب الآسيوي يختلف في مضمونه وتنوعه عن الأدب في مناطق أخرى حسب ما أفاده الباحثون في الآداب بشكل عام، فمثلا الأدب الأوروبي أو الأفريقي، والأميركي، أو الأميركي اللاتيني، كل منها يحظى بخصائص مجتمعة التي جمعت بينها وهي تمتلك بعضا من التاريخ المشترك والتشابه. بينما نجد الآداب الآسيوية، تمتد في قارة شاسعة المساحة وفيها التنوع اللغوي والتعدد الثقافي الإنساني، وتنحدر منه الفلسفات المثالية والواقعية والمادية والروحية والواحدية والتعددية، فضلا عن النزعة العدمية، ومذهب الشك الفلسفي؛ وبالتالي نجد التنوع في الإنتاج الأدبي للدول الأسيوية المطلة على المحيط الهندي من أفكار وفلسفات الشرق القديمة في اليابان والإنتاج الفكري الهندوسي والإسلامي في الهند والأدب والشعر الصيني، وغيرها والتي لم نتعرف عليها سابقا مع أن علاقة عمان التجارية امتدت لبعض هذه الدول؛ فمن خلال التبادل التجاري، نقل العمانيون حضارة عمان وثقافتها وتقاليدها وعاداتها بطريقة غير مباشرة لهذه البلدان كما جلبوا بعض الثقافات والعادات من تلك البلدان إلى أرض عمان الحبيبة، وهنا يظهر اختلاط الثقافات والتَأثر والتَأثير حسب ما ذكره بعض الباحثون العمانيون في أبحاثهم عن التاريخ العماني، ولكن لم يتم اكتشاف هذه الآداب وترجمتها للتعرف عليها بالصورة المرجوة منها. وعالم الترجمة الواسع اهتم منذ زمن بترجمة الأدب الأوروبي والأمريكي إلى اللغة العربية ومن العربية إلى اللغات الأوروبية، بينما لا توجد الكثير من الترجمات لآداب الدول الآسيوية المطلة على المحيط الهندي، والأدب الياباني يحظى بالترجمات حاليا أكثر من غيره من الإنتاج الأسيوي والاتجاه حاليا إلى معرفة الشرق وآدابه.

فيما تأتي المترجمة والمحررة الأدبية السورية فرح شرف التي صدر لها العديد من الأعمال الأدبية المترجمة والحاضرة في المكتبة العربية لتكون أكثر قربا من هذا الإطار فهي تشير إلى الدور الذي من الممكن أن تقوم به الترجمة العمانية في نقل ثقافات شرق آسيا إلى العالم العربي، على وجه العموم، وهنا توضح: أود أن أشير إلى نقطة ذات أهمية في هذا الشأن وهي أن الغرب ما زال يحافظ على نوع من المركزية الفكرية والثقافية في العالم كله، وليس في الثقافة العربية فقط، وتضيف: تحتل ترجمة الآداب الغربية أكثر من 90 بالمائة من ترجمات العالم، وهو يحتل المكانة نفسها حتى في الآداب الآسيوية أو الشرق آسيوية ذاتها. ولكن حتى في الغرب هناك توجه الآن لإحداث نقلة نوعية في نظرية الترجمة التي تتجاوز اللغات الأوروبية وتعزز العمل في مجال الترجمة من اللغات الآسيوية، من خلال تضمين مجموعة واسعة من الأدب تحديدا في شرق آسيا.

أما دور النشر العربية فتواجه صعوبات في هذا المجال، أولًا كما ذكرت، لأن الآداب المترجمة هي أوروبية بشكل شبه كامل تقريبًا، ما جعل ذائقة القارئ العربي والناشر على حد سواء تتجه وتفضل هذا النوع من الأدب، وكانت الرواية الآسيوية غريبة على القارئ سواء في الثيمات أو الأماكن أو الشخصيات وتركيبها وفهم واستساغة المصطلحات الخاصة بتلك اللغات، وهو بالتالي يشكل لقسم كبير من الناشرين مشروعًا خاسرًا، خاصة مع غياب الدعم وقلة المترجمين المتخصصين في هذه اللغات، مع ذلك، فخلال السنوات العشر الفائتة كان هناك توجه لدى بعض الدور لترجمة ونشر أعمال آسيوية، خاصة بعد تلقي عدد من الكتاب الآسيويين جوائز عالمية مما يجعل من تسويق الكتب أمرًا أكثر سهولة، وبعد ظهور بعض الشخصيات التلفزيونية التي جذبت الجيل الجديد ازداد الاهتمام بالتعرف على ثقافة وآداب هذه الشعوب ولكن ليس بدرجة كافية.

وعن سبب القطيعة بين القارئ العماني والإنتاج الثقافي في الدول الآسيوية المحيطة، وعدم وصول تلك الثقافات مترجمة باللغة العربية، لا تذهب المترجمة العمانية رحمة الحبسية بعيدا عن تلك الآراء التي تتحدث عن الدور الذي تقوم به المؤسسات المعنية بالترجمة والأفراد في السلطنة في نقل ثقافات الشرق الآسيوية إلى العالم العربي فهنا تشير إلى أنه لطالما كان الفضول وحب الاطلاع على منجز الآخر من الأسباب التي دفعت الإنسان لاكتشاف ثقافات الشعوب الأخرى، وهذا يفسّر محاولات المترجم العماني الذي بدأ مؤخرا وبجهود فردية، بطرق أبواب النتاج الثقافي لدول آسيا عموما وشرق آسيا خصوصا. بيد أن هذه المحاولات ظلّت محصورة بالأدب الآسيوي المترجم باللغة الإنجليزية، ونرى ذلك في ترجمات المترجمة العمانية ريم داود للنصوص الهندية والصينية، وكذلك في أعمال المترجم أحمد المعيني التي تناولت الثقافة الفارسية.