الأربعاء، 23 يونيو 2021

مراجعة في رواية "أربطة"

 



د. سناء الجمالي- أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية


صدرت رواية "أربطة" للكاتب الإيطالي دومينيكو ستارنونه في عام 2014، وفازت بجائزة "ذا بريج للكتاب" في عام 2015، وصنفتها جريدة "الصنداي تايمز" البريطانية كأفضل رواية في عام 2015، ونشرت باللغة العربية من قبل دار الكرمة في مصر في عام 2019، حيث ترجمتها المترجمة المصرية القديرة أماني فوزي حبشي من اللغة الإيطالية إلى العربية.

يمكن لقارئ الرواية أن يفهم موضوعها ضمنيا من خلال الغلاف؛ فالغلاف يحمل صورة لحذائين كلاسيكيين قد تشابكت أربطتهما معا بطريقة معقدة، مما يوحي بأن أحداث الحكاية في هذه الرواية تدور حول موضوع كلاسيكي يحمل أكثر من وجهة نظر، ولكن كل تلك الآراء ووجهات النظر المتضاربة فيما بينها والمرتبطة، في الوقت نفسه، بمحور موضوع الرواية، تصل لنقطة تتعالق فيها ببعضها، وتتشابك إلى درجة يكون الانفلات من بعضها محالا.

رواية "أربطة" تنقسم إلى ثلاثة أقسام، يحمل كل قسم منها عنوانا، وعندما نبدأ في قراءة الرواية، نكتشف أن القسم الأول يعبر عن وجهة نظر "فاندا"، إحدى شخصيات الرواية، حيث يتمثل لنا صوتها بوضوح من خلال رسائل كتبتها إلى رجل، وهو الزوج، الذي هجرها تاركا إياها وحيدة مع طفليهما، وبمواصلة قراءة الرسائل نعرف أنه فعل ذلك من أجل امرأة أخرى وقع في حبها.

أما القسم الثاني فيحتوي على وجهة نظر الزوج "آلدو مينوري"، الشخصية الثانية في الرواية، ونجد أنه يعرض لنا حياته، مبررا أحداثها من وجهة نظره، وفقا لما أحس به آنذاك. أما القسم الثالث من الرواية فيحمل وجهة نظر ابنيهما، مع تغليب لصوت الابنة –"آنا"– ووجهة نظرها على صوت أخيها –"ساندرو"- الذي يخالفها الرأي في بداية حوارهما، ولكنه يعود ليتفق معها في نهاية الحوار.

وبعد قرابة أربعة أعوام من هجر "آلدو مينوري" لأسرته، نجده يقرر العودة إليها بأسلوب تدريجي، والحدث الذي يشجع "آلدو" في تنفيذ هذه الخطوة هو الحوار الذي دار بينه وبين ولديه في المقهى، حيث التقى بهما بعد مدة طويلة من انفصاله وابتعاده عن أسرته. كانت الأم قد اتفقت مع ابنتها "آنا" أن تسأل والدها ما إذا كان هو الشخص الذي علم أخاها "ساندرو" طريقة ربطه الغريبة لحذائه، وكان الهدف من طرح هذا السؤال وخلق حوار حوله بين الأطراف الثلاثة -الأب وولديه - هو إشعار "آلدو" بأثره العميق في حياة ولديه وأسرته، وهو ما كان –"آلدو" - بحاجة لأن يشعر به، لذا نجده وقد تشبث بالفرصة التي أتاحها له هذا النقاش مع ولديه؛ وهو نقاش يوحي بهشاشته الظاهرية مع احتوائه على معنى عميق يدل على مدى تشابك العلاقات الأسرية من الناحية العاطفية، بالرغم مما قد تظهره من ضعف. وهكذا، نجحت "فاندا" في استعادة حياتها الأسرية، بإتاحتها الفرصة التي مكنت "آلدو" من انتهازها للعودة إلى منزل الأسرة.

نستدل من تطور أحداث رواية "أربطة"، بعد عودة "آلدو" إلى أسرته، أن خيار العودة لم يكن صحيحا، فهو لم يتمكن من نسيان حبه لحبيبته "ليديا"، كما أن "فاندا" لم تتمكن من مسامحته على خيانته لها وهجره إياها، مما أدى بالأسرة إلى أن تحيا في جو من التوتر الدائم، الذي انعكس سلبا على حياة ابنيهما "ساندرو" و"آنا"، إذ قررا، في نهاية الجزء الثالث من الرواية، تدمير منزل والديهما أثناء سفر الأخيرين لقضاء إجازتهما؛ تعبيرا منهما عن رفضهما لنشأتهما، في ظل ظروف غير صحية من الناحية النفسية بسبب طبيعة علاقة والديهما المتشابكة والمعقدة.

يتوصل القارئ في نهاية الرواية، إلى قناعة مفادها: أن على  الإنسان، عندما يدير ظهره لمرحلة ما من حياته، مجتثا كل الروابط التي تربطه بها، ألا يعود إليها مرة أخرى في محاولة منه لإصلاحها، لأن العطب حينئذ يكون أعمق من أن يصلح؛ وهذا ما يرد على لسان "فاندا" في نهاية الجزء الثاني من الحكاية، وهو ما سيتكرر ذكره لاحقا في الجزء الثالث على لسان "آنا" بطريقة مغايرة وأكثر وضوحا،  أثناء حديثها مع أخيها "ساندرو"، حيث نسمعها تقول: "كنت أريد أن يكون أبي لي أنا وحدي، كنت أتمنى أن آخذه من ماما ومنك، لكنه لم يكن لأحد منا، يجلس هناك، إلا أنه لم يكن موجودا. كان قد تخلى عني وعنك وعن ماما، وفعل خيرا، هذا ما فهمته بسرعة ... بعيدا، بعيدا، بعيدا. كانت أمنا بالنسبة إليه، هي الحرمان من متعة الحياة، ونحن أيضا، أنا وأنت؛ لم يكن مخطئا، كنا بالفعل هذا الحرمان، الحرمان! كان خطأه الحقيقي أنه لم ينجح في أن يرفضنا تماما ... فبمجرد التصرف بطريقة تجرح فيها بعمق، بحيث تقتل، أو على كل حال تحطم إلى الأبد حيوات آدميين

آخرين، لا يجب مطلقا أن تعود إلى الخلف، لا بد أن تتحمل مسؤولية جريمتك إلى النهاية، فلا يمكن اقتراف نصف جريمة"؛ هذه هي الحكمة في العلاقات الإنسانية المعقدة والمتشابكة من الناحية العاطفية، التي توصلها نهاية رواية "أربطة" لقرائها عن طريق بنيتها الفنية المكونة من تعدد الأصوات، والكاتب يفعل ذلك بسلاسة وتشويق وبأسلوب نجح في جعله كاشفا عن أغوار النفس الإنسانية.  


المصدر: https://anwaar.squ.edu.om/blogs/2021/06/22/%d9%85%d8%b1%d8%a7%d8%ac%d8%b9%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%a3%d8%b1%d8%a8%d8%b7%d8%a9/

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق