الثلاثاء، 3 يناير 2012

نهاية الإبداع



*شريف الغريني




أتعجب عندما أفكر في حال الدنيا إذا فقد المبدعين قدراتهم الإبداعية تلك ، لا أسأل عن حال المبدعين ساعتها ولكني أسأل عن حال الدنيا وما ستؤول إليه وفى سبيل الحصول على إجابة تخيلتني أنظر إلى الأرض من على كوكب آخر لأن الصورة تكون أكثر اكتمالا من بعيد ، طرت في الهواء لكنى لم تلح لي من الأفق سوى عصوراً من الظلام الأول وذلك في أول صورة فلكية لكوكب الأرض في عصر غياب المبدعين . الإبداع هو الخلق المستمر لأشياء ليست موجودة، وبالضرورة يجب ألا تكون موجودة من قبل ،هذه المخلوقات عندما تكتمل بين يدي صانعها تعمل بدورها لتنحت في الصخور مجارى لتسيير أنهار الحياة التي تسقى ذلك الزمن المتعطش دائما ، فالحياة بلا إبداع إذاً لن تستمر ولن تتوقف عن التراجع المضطرد بل وسيستمر اضمحلالها وصولا إلى الزوال الكامل والفناء السريع. المبدع يجدد للحياة شبابها ويلبسها ثوب الزفاف كل ليلة ، وهو الذي يرتق لها غشاء بكارتها كلما فضته صورايخ الجهل و ألغام التخلف ، والإبداع على الإطلاق هو الذي من أجله تدور الشمس وحولها تدور الأرض في رقصة الأبد التي لم تتوقف ولن تتوقف إلا مع توقف قلب آخر المبدعين.الأزمة الحقيقية تحدث عندما يفقد المبدع إيمانه بما بين يديه، فالأنبياء كانوا أول من آمن بما جاؤا به للناس ،إلا أن الأنبياء لم يتوقفوا عن الدعوة كلما أنحسر عدد المستجيبين ولم يزدهم الإعراض إلا استمرارا ، حتى إن أكثرهم لم يعش حتى يرى ثمرة دعوته .

لعلى لم أهرطق عندما ربطت بين الإبداع والنبوة ،فدأبُ المبدعين والأنبياء الإتيان بأشياء مغايرة لما هو سائد في عصورهم ، وعموما لكل زمن أنبياؤه وفى العصر الردئ يكثر الأنبياء ، وإذا اتفقنا على أننا نتقلب في أتون ردة حضارية غير مسبوقة ، وإذا اتفقنا على أن الانحسار الثقافي لم يتبعه حتى الآن أي مد منذ أمد طويل في وطننا العربي ، فلا بد أننا سنتفق على أننا في أشد الحاجة إلى المبدعين وبخاصة أصحاب الأقلام منهم ، وليس ذلك لفضلهم على من هم سواهم و لكن لامتداد أثرهم وطليعيتهم ولخطورة رؤاهم التي تتحدد على أساسها ملامح المستقبل ومصير الأجيال، ومع ذلك فالطريق أمام أصحاب الأقلام - الكتاب و الشعراء والروائيين- وعر تشتد وعورته مع ازدياد إعراض المتلقي المنشغل إما بوضع رأسه في نير هنا أو "مفرمة" هناك بينما يقضى غيره بقية عمره وهو يحاول الفكاك و الخلاص غير منتبه إلى أن الفكاك لن يكلفه سوى مجهود بسيط يعادل المجهود الصادر من أطراف أصابع تتصفح كتاب . حقاً إن نصيب الأدباء والشعراء من المتلقيين أصبح نذراً يسيراً لا يغرى ربما بالبحث ولا بالنظر، ولا يحث أصحاب الأقلام على إخراج ما في بطونهم من عسل ، لكنى أقول لكل الأقلام ولأصحابها ولكل من وضع اسمه على غلاف كتاب أو أسفل مقالة : نعم أن الأمم تغفو وأن غفوتها ربما تطول وإن الإعراض عن الكتاب يأتي دائما كشاهد عيان على التردي وكمظهر قوي من مجموع مظاهر هذه الغفوة، إلا أن أرفف المكتبات وخزانة الكتب هي أول ما يقصدون بعد يقظتهم مباشرة، فعلينا إذاً ألا نتوقف ، وأن نرفع من درجة جهازيتنا مع زيادة الفضاء عمارة بإبداعاتنا المختلفة .
تحية لكل صاحب قلم في عالمنا العربي فهو جدير بكل احترام ،و ربما أكثر من غيره من مبدعي العالم وهذه ليست مجاملة، بل هي موضوعية تزداد وجاهة إذا عرفنا أن أكثر أدبائنا لا يؤجرون إلا قليلا على إبداعهم بل أنى اعرف كثيرين منهم ينفقون على كتبهم ولا ينتظرون عوائداً، مخالفين بذلك ما هو معروف ومعمول به في دول لا تنتمي إلى إقليمنا ، ربما تكون أقل منا ثروة ولكنهم أكثر يقظة يتمتعون بمناخ صحو جعلهم يعرفون للكاتب منزلته ويعتمدون عليه في رسم المستقبل وتحديد المصير، ولذلك فهم من ناحية يوفرون له ما لا يتوفر لغيره من تسهيلات في كافة مناحي الحياة رعاية منهم لإبداعاته و استرضاعا لقلمه وما يخرج منه واستعجالا له حتى يطلق سراح طيور أفكاره من أوكارها ، ومن ناحية أخرى يرسخون قيم المطالعة في نفوس الجماهير القارئة بطرائق وأساليب كتلك التي نروج لها في بلادنا للهو والمرح والكسل والاستهلاك.
سنظل مستهلكين لحضارات الآخرين وما يمليه ذلك علينا من تنازل و قبول للمرفوض إذا لم نقرأ ونبحث عن الحكمة في بطون الكتب ، الروايات ، القصص ودواوين الشعراء ، ليس هذا فحسب بل والتفاعل مع الكاتب ومناقشته مباشرة أو مراسلته اعتصارا لحكمته وتفاعلاً حياً معه.
سيظل الكتاب نهراً حميما يحتضننا بين دفتيه في أي وقت و يقبل النزول في ضيافتنا حيثما كنا ، وهذه العلاقة بين الكتاب وقارئه لم يُرى لها مثيلا حتى اليوم مع أي وسيطة حديثة من وسائط نقل المعرفة ، كما أن الكتاب عادة ما يتخذ من قارئه شريكا بعد أن يستفز مهابط الوحي ومصابيح الاستكشاف والتصوير في نفسه ، والبون شاسع بين المشاهد و الشريك لو حاولنا المقارنة بين الكتاب وغيره من الوسائط أمام المتلقي .

*كاتب من مصر




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق