الثلاثاء، 19 أبريل 2011

عيونك والقراطيس



الكتب هي أكثر من كتب، إنها حياة الأزمان الماضية، ولُبُّها وجوهرها، إنـها تبرّر لماذا عاش البشر وعملوا، وماتوا. وهي معني حيواتهم وخلاصتها “، هذا ما قالته الكاتبة إيمي لويل عن الكتب، في الوقت الذي كنتُ أحاول فيه أن أتذكر علاقتي بها، متى بدأت، وكيف تحولت؟ فنحن نخون قراءاتنا، ونُغيرها، بحسب أعمارنا، وبحسب ما ينضاف إلى رصيدنا الثقافي والمعرفي من خبرات..

القراءة فعل ملتبس، وأعني بذلك، أن هنالك بيئة مهيأة لأن يخرج منها قارئ فذ، ولكنه لا يخرج.. بيئة مليئة بالكتب، أهل مهتمون بالقراءة، لكنك تجد الابن لا علاقة له بذلك. بينما يحدث العكس، أن ينشأ شخص ما في أوساط لا تقرأ، وليس في حوزة بيته كتاب واحد، بل ربما لا يتحدث أحد أمامه عن الكتب، إلا انه يندفع بشغف هائل إلى القراءة.. يحدث ذلك بالرغم من أنّ القاعدة العريضة تقول أن التربية، وسلوكيات الأب والأم تمنح الفرد مكتسبات أو ميول مضافة إلى الميول الفطرية لديه. لذا ليس من الغريب أن نجد مجتمعات بأسرها تتعامل مع القراءة على اعتبار أنها عادة يومية وسلوك حياة، وبالمقابل هنالك مجتمعات تقابل مع من يحمل كتابا للقراءة في مكان عام بنظرة استهزاء.
هكذا بدأنا مع قصص المكتبة الخضراء، ومجلة ماجد ومجلة باسم،ومجلة أحمد، ثم ما لبثنا أن وجدنا أنفسنا نقرأ الروايات البوليسة تلك التي لم نكن قادرين على تركها، فقد كانت تتمشى معنا في البيت، ونتبادلها في غرف الصف، بحثا عن متع أخرى إلى جوار كتب المدرسة.
وربما يكون أحدنا أو بعضنا أو أغلبنا، قد تلقى هذه النصيحة من شخص يتمتع بخبرة قرائية أعلى:” القراءة السهلة ستمنحك المتعة الآنية السهلة.. لا أكثر من ذلك، وبعدها ستقع في فخ أنك لا تستطيع قراءة أي شيء آخر”.
تلك الجملة التي نُصح بها البعض، أو استنتجها البعض الآخر، جعلت القارئ منا يُراجع نفسه عند اختيار الكتب، دفعته لأن يفكر في بدائل قرائية أخرى، بينما البقية الباقية اكتفوا بمتع الإثارة ولم يتجاوزوها إلى يومهم هذا..
هكذا عبرنا فوق مجموعات جيب رجل المستحيل، أدهم صبري، والمغامرون الخمسة، إضافة إلى أجاثا كريستي، ومن حيث لا ندري وقع بعضنا على الروايات العاطفية الساخنة، التي لم تكن أفضل حالا من الروايات البوليسية، فيما اتجه الأكثر حظا إلى قراءة نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن منيف، وغيرهم.
مكتبة المدرسة لم تكن مخصصة للكتب، كانت مخصصة للتلميذات الهاربات من حصص الدرس، هذا ما خزنته ذاكرتي عن المكتبة المدرسية آنذاك، -وأتمنى أن يكون الأمر مختلفا الآن-، لذا لم استفد منها، ولم تستفد زميلاتي الأخريات..بقينا نقتات على عادة تبادل الكتب التي نقتنيها من مكتبات فقيرة، لا نعرف وقتها صالحها من طالحها، فقط نمارس متعة أن نقرأ ما هو خارج المنهج الدراسي.
ربما أخصب الفترات القرائية في حياة أغلبنا، وأقول –ربما- هي في الحياة الجامعية، التي تعني الاختلاط بأناس من مناطق مختلفة من ناحية الجغرافيا ومن ناحية الوعي. بيئة تشجع على تبادل الكتب، وتجد أناسا قادرين على خوض نقاشات معك حولها، فكم من الكتب الجميلة والمدهشة قرأناها بتوصية من الأصدقاء، والمعارف، والمواقع الالكترونية في الوقت الراهن.. لكن يقع البعض منّا في مشكلة من نوع آخر، وهي مشكلة إدمان كُتاب بعينهم، والبحث عن كل نتاجهم، وعدم القدرة على تجاوزهم بسهولة، ولا يبدو أن هذا الإدمان صحيا، خصوصا لمن يشتغل أصلا على مشاريع من قبيل الإنتاج الأدبي إلى جوار قراءاته.. قد يستغرب أحدنا إذ يرى أن فئة الشباب في عُمان تُجمع إلى حد كبير - وهذا لم تثبته الدراسة، وإنما الملاحظة الشخصية- على مطالعة أسماء بعينها في مجال الأدب، وسأذكر على سبيل المثال لا الحصر الكاتب ماركيز، باولوكويلو، والكاتبة أحلام مستغانمي، والكاتب واسيني الأعرج، فهنالك شغف كبير لمتابعة هؤلاء الكتاب.. وبغض النظر حول إن كانوا كُتابا كبارا، أو لا، فالسؤال هو:
هل لعبة التثقيف القرائي هي لعبة الكاتب المثقف، أو أنها لعبة المراجعات الصحفية التي من المفترض أن تُساهم في إثراء التنوع لدى القراء، عبر تقديم مقترحات قرائية مهمة؟ أم أنها لعبة القارئ.. المفرزة الكبيرة التي تعرف ما تريد، وبالتالي فلا حاجة إلى التوجيه؟
ويبقى السؤال الأهم، والذي مازلنا لا نعرف إن كان سببه هو الإعلام العماني، أم هو الكاتب العماني أم هو القارئ العماني نفسه، إذ في كل مرّة نطرح فيه هذا السؤال – عبر الاستطلاعات الصحفية- عن وجود الكاتب العماني على خارطة اهتمام القرّاء من اهتمامات وأعمار ومستويات تعليمية مختلفة، نتفاجأ بإجماع مخيب للآمال من القرّاء الذين تكتض بهم معارض الكتاب، الذين لا يحملون، أو لأكن أكثر دقة –لا يحمل أغلبهم- أي رغبة في اقتناء الكتاب العماني في كل مجالاته باستثناء ما يتعلق بالفتاوى الدينية، أو الكتب التي لها علاقة بتاريخ عُمان.
ولا يزال يغيب عنّا بالفعل السبب الحقيقي الذي يقف وراء ذلك، بالرغم من أن الكاتب العماني بدأ يجد مساحات جيدة في الخارج عبر المواقع الالكترونية، التي سرّعت من انتشاره إلا أن إجابات القرّاء لا تزال محبطة، وإلقاء اللوم مستمر من قبلهم على الإعلام وعلى الكاتب.
كما قال توماس كارليل: “الكتب هي ممتلكات البشر المختارة”، لأن الوقت والحياة والبشر لم يعودوا قادرين على الاتساع لنا، كما قد يفعل كتاب جيد.
إلى الآن أذكر دهشتي الأولى عندما وجهت لي أمي هذا السؤال، وكنتُ وقتها في الصف الثاني الإعدادي بعد أن استفزها سهري على قراءة كتاب، بدلا من سهري على كتب المدرسة: “ليش تعوري عيونك بالقراطيس؟”..نعم السؤال الذي ربما يتلقاه أغلب من يهتمون بالقراءة، ماذا تستفيد من قراءة الكتب؟ ماذا تضيف لك، لذا يصبح لزاما عليك أن تختبئ في مكان منزوٍ وبعيد عن أنظار الناس، لأنك ما أن تفتح كتابا في صالة انتظار أو في مستشفى أو في حديقة عامة أو حتى في مقهى، حتى ينظر إليك الناس باستغراب، وقد يخطر لك أن تقول لهم بانزعاج تام، “ماذا...هل تشاهدون كائنا فضائيا؟”.
ونحن عندما نقرأ الكتب، نحصل على السعادة، سعادة ربما يحرم الكثيرون منها باختيارهم أو لأسباب لا نعرفها، وكما قال دجون لايلي راسكن: “إنه لأفضل لك أن تزخر مكتبتك بالكتب، من أن تكنـز محفظتك بالنقود. الكتب التي تدخلها إلى قلبك، تضمها لصدرك، تحتفظ فيها تحت سريرك بالقرب من مخدتك، لا شيء من أشيائك يمتلك هذا القدر من الحميمية معك.. إذ فور محبتنا للكتب تتحول إلى كائن حي تماما

بقلم هدى حمد
المصدر: ملحق شرفات، جريدة عمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق