الاثنين، 28 يناير 2019

مَيْ مِنَسَّى تنتعلُ ثلج لبنان وتنغرسُ شجرة أرز في بِشَرِّي







بقلم الأستاذ حمود بن سالم السيابي

عَصَفَ الشتاء بأجمل شجرات أرز لبنان ، فأوصتْ مي منسَّى بأن يعاد غرسها في بِشَرِّي لتنتعل الثلج وتشرب مياه قاديشا.
وكسرتْ الرياح أجنحة "فراشة النهار" فتساوتْ مي منسَّى بجبران خليل جبران صاحب الأجنحة المتكسرة.
وحين حملتني الرياح إلى لبنان شتاء ٢٠٠٨ وطفتُ بمعرض بيروت للكتاب كانت مي منسَّى هناك تملأ منصة رياض نجيب الريس بعناوينها الكبيرة.
وكانت رواياتها بين حبات ثمار اليقطين التي ملأت منصات دور النشر.
وكان مرتادو المعرض يتسابقون لكتبها باللغتين العربية والفرنسية دون أن تشغلهم رائحة اليقطين.
وعاودتُ زيارة بيروت في مايو عام ٢٠١٣ ولم يكن الزمن زمن معارض للكتب إلا أن مي منسَّى كانت أجمل ما تقرأه لبنان فوقفْتُ بجوار مبنى جريدة النهار بساحة الشهداء حيث تعمل "فراشة النهار"  لأشم الحبر ورائحة الورق وحروف مي منسَّى ، وأتأمل الديك الأزرق الذي ما انفك يوقظ الصباحات اللبنانية طوال ثمانين عام.
ولم يدرْ بخلدي يوماً أن الشتاء سيقتلعُ شجرات أرزه فعهدي بالأرز الثبات.
ولا توقعتُ أن أجمل جميلات الأرز ستذبل فكل دوائر المعارف والموسوعات تضع الأرز كشجر أبدي ، وكمقاوم للموت وعابر لألفيات الزمن.
إلا أن (الساعة الرملية)لمي منسَّى استقبلت الشتاء بفروسية وأسرجت أحصنة الثلج ساعة (شق الفجر قميصه) و (انتعل الغبار ومشى).
ولعل بيروت التي أحبتها لم تعد بيروت ، ولا (أوراق دفتر شجر الرمان) تعبق برائحة الرمان.
ولقد أمضتْ أيامها الأخير خلف (ماكنة الخياطة) تغزل فستان زفافها للثلج ، وتزركش عصابة (للتماثيل المصدعة) فقد اقترب (المشهد الأخير)لتستقصي دوافع (قاتلة أمها لتحيا).
لقد أحبَّتْ مي منسَّى الزعيم الخالد جمال عبدالناصر فذرفت في (حكاية ناصر)كل الدموع
وأحبَّتْ لبنان الذي يسكنه حب عبدالناصر فنزفتْ حبراً بحجم الليطاني والنهر البارد والدامور والحاصباني والعاصي ونهر الجوز.
وكانت مي منسَّى تشبه لبنان في تعدد أعراقه وطوائفه ودمائه وثقافاته ، فهي متعددة كلبنان بين مذيعة وصحفية وروائية وشاعرة وناقدة ، وقد كرست كل ذلك للبنان سيد نفسه ، ولأجل القيم التي آمنت بها وناضلت لتحقيقها، ولأجل لبنان العيش المشترك تحت أرزه.
لقد ولدت مي منسَّى بجوار موجة في بحر بيروت بعد ست سنوات فقط من ولادة جريدة النهار.
وعاشت طوال عمرها وفية للموج ولبيروت وللنهار.
وكانت فراشة النهار تتمنى أن تدفن بالقرب من بحر بيروت وصخب السوليدير وأذان مسجد محمد الأمين وأجراس كنيسة سانت جورج ، إلا أن بيروت للأسف ضاقت بنفسها من نفسها بعد أن تشظت إلى بيروتات وعشرات العمائم والصلبان ، وانتحرت النبتات الخضراء في مزهرياتها وأوصدت الشرفات،  ولم تعد تطيق اللون الأخضر ولا الشجر الأخضر ولا القلوب الخضراء ، فكيف لهذه البلدة المحتقنة أن تتحمل شجرة أرز بطول مي منسَّى التي نأت بنفسها متفهمة جروح بيروت المفتوحة ووجعها المزمن فكسرت أبدية شجر الأرز واحتطبت نفسها باستعجال الصعود إلى ذرى  بِشَرِّي حيث أمها وجبران خليل جبران لترتفع سارية علم للبنان وأرزة خضراء في بياضه ولتواصل من هناك الصلوات للبنان.
وبرحيل مي منسَّى يُنْكَبُ الحرف اللبناني الذي فرض أناقته وسحره وذوقه ، وتُنْكَبُ النهار وهي الموجوعة بجبران تويني وغسان تويني ثم جبران تويني الثاني ففراشة النهار ترفرف بعيدا ، وديك النهار الأزرق يفقد شهية إيقاظ بيروت التي تكره الصباح وتكره الإستيقاظ بعد أن أدمنت التثاؤب على صوت البوم ونعيق الغراب.
وأختتمُ حديثي عن مي منسَّى بما بدأته هي في مستفتح روايتها (تماثيلها المصدعة) :
"علاقتي بالشمس علاقتي بكل زائل يبعث في نفسي كآبة قانية بلون المغيب هذا اللون الحصري الذي لا ينافسه عليه كوكب ، تتوشح به في الفصل الأخير من تراجيدية الخريف ، ترحل بعده تاركة في عويل الأمواج نتفاً من لهب شالها الأرجواني".
وهكذا تتسحَّبُ مي منسَّى من الأفق البيروتي تاركة كآبة قانية بلون المغيب. 


مسقط في ٢٢ يناير ٢٠١٩م.
ملاحظة : الجمل التي بين هلالين هي عناوين روايات الكاتبة مي تم توظيفها في النص.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق