الثلاثاء، 1 أكتوبر 2013

انتصار الدمعة على السيف




قراءة – خالد حريب  -

الدقات الجنائزية في «المصطلم» لعبدالله البلوشي  -

شاعر مهم وديوان جديد يضاف إلى مكتبة الشعر، هو عبدالله البلوشي وديوانه الجديد هو “المصطلم”، لا تندهش من غرابة اسم الديوان كمصطلح مهجور و”المصطلم” أحد الألقاب التي أطلقت على المتصوف الكبير “الحلاج”، أقول لا تنشغل بهذا وادخل مباشرة إلى النبع الرقراق الذي ينهل منه عبدالله قصائده..
يقول الشاعر:
مرتحلا
حيث السماء أقرب
يبعدك الخوف
ويدنيك وجع العالم
وجياعه الموتى
نظرتهم هي معبر
إلى فضاء أوسع
وبوصلة أوصلتنا إلى ردهة الملكوت

هكذا يرى الشاعر من خلال رؤية واسعة اقتراب السماء مع المرتحلين ووجع العالم الذي يجعله أقرب إلى الجوعى الميتين ونظرة الأسى العميقة التي تعبر بالمرتحلين إلى الفضاء الأوسع كبوصلة تؤدي بهم مباشرة إلى ردهة الملكوت. و”المصطلم” كما أسلفنا يرتبط بروح الحسين بن منصور الحلاج، لذا ينسجم الديوان مع اغترابات الحلاج وسفره الدائم وعذاباته الإنسانية ومعاناته التي صارت مثلا ندلل به على ثبات الموقف وسلامة الروح.
ولا يقصد عبدالله البلوشي أي تزيد ملغز في ديوانه فهو يكشف أوراقه مباشرة من الصفحة الأولى حيث يهدي ديوانه «إلى الحسين بن منصور رماداً في النهر وروحاً في السماوات». وبهذا الإهداء الذي نعتبره استهلالا للديوان يستطيع القارئ أن يفك شفرة الديوان وأن يعد نفسه لتلك التجربة واضعا نصب عينيه التجربة الطويلة والعريضة للحلاج صاحب النهاية المأساوية وصاحب الأسئلة الكبرى في تاريخنا الإسلامي، هكذا قصد عبدالله البلوشي تهيئة القارئ من اللحظة الأولى ليعرف إلى أي مسار هو يتجه..

مغترباً
تستقر كأنك الظل
تدفعك العزلة نحو الحتف
إلى جوار شجرة
بكت بين تلابيبها طيور اليتم
بينما يرفرف على رأسك
نجم وحيد
وأنت خاضع في الظلمات
إذن ينجح عبدالله البلوشي في اصطياد المفردات الدالة على الروح المقصودة، تلك الروح المتشظية بفعل المحن المتوالية، ليس هذا فقط ولكن المدقق في إيقاع اللفظة والسطر الشعري يلمح بوضوح مدى تأثر البلوشي بإيقاع الحلاج ذاته فهي الدقات الجنائزية نفسها التي كانت ملمحا رئيسياً في رحلة الحلاج.
ويفلت عبدالله البلوشي من حالة الانبهار بشخصية الحلاج الدرامية الصعبة وصاحبة الموقف المتناقض مع محتكري الحديث باسم الله، فلا يتوقف البلوشي كثيرا عند هذا الأمر الذي هو من مهام المؤرخين والباحثين ولكن ما يهم شاعرنا ويسعى نحوه بدأب على مدار صفحات الديوان هو انتصار الدمعة على السيف، وبهذه البساطة يكتب في صفحة 38 من ديوانه.
” يمرون عليك ببسالة شائقة
أو هم على جياد مطهمة
رافعين رؤوسهم
بين الدمعة المنسابة
حين أبصروها تحت لثامك الأيسر
هي من عجل
بزوال أجسادهم إلى الوراء”

وديوان البلوشي جاء فيما يشبه ثلاثة مقاطع أسماها بالترتيب (المبتدأ، والمنتهى، ومن الفيض) وكل مقطع من الثلاثة يضم تفاصيل التفاصيل مقتديا بالأجواء الروحية العامة التي عاشها الحلاج كثائر محب، ويجتهد عبدالله في تدفقه الشعري أن يفصل بين حالة التماهي وحالة التدقيق التي يتوقف فيها عند زوايا بعينها ويشبعها شعرا، ليقدم لنا في منتجه الأخير زاداً روحياً ملهماً للآخرين.
بقى أن نقول: إن ديوان عبدالله البلوشي جاء بدعم من مدونة ساعي البريد وصدر عن دار الانتشار العربي ببيروت في 94 صفحة من القطع الصغير، ورسم لوحة الغلاف التشكيلي القدير الفنان العماني موسى عمر.
ويذكر أن عبدالله البلوشي سبق له أن أصدر أربعة دواوين شعرية أثرى بهم وجدان متابعيه ويأتي ديوانه الجديد كحلقة جديدة في سلسلة عطائه الهادئ دون ضجيج، ففي 1994 أصدر ديوانه الأول تحت عنوان “برزخ العزلة” وبعده بعامين فقط أصدر ديوانه الثاني “فصول الأبدية”، ويغيب بعده عقد كامل من الزمن ليعاود الإصدار في 2007 بديوان رشيق جاء تحت عنوان “معبر الدمع” ثم احتفلنا معه في 2011 لصدور ديوانه الرابع الذي حمل عنوان “أول الفجر”، واليوم نقرأ معه ديوانه الخامس “المصطلم” وما زلنا ننتظر منه المزيد.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق