الأحد، 28 أبريل 2013

قراءة في ديوان المصطلم



 
قراءة: هيثم حسين 


 يختار الشاعر العمانيّ عبدالله البلوشيّ لمجموعته الشعريّة «المصطلم» عنواناً أقرب إلى العنوان الروائيّ، ويتجلّى التقارب أكثر حين محاولة التأويل والتنقيب في بعض المرامي التي ينشدها الشاعر من اختياره لهذا العنوان الذي يبدو غريباً في تركيبته البنيويّة، إلّا أنّ الغموض يتبدّد رويداً رويداً ليحلّ محلّه سؤال البحث عن الآخر في مرآة الذات الشاعرة، وسؤال التماهي والحلول والإحياء والترميز. ذلك أنّ «المصطلم» يعرف بأنّه أحد الألقاب التي أطلقت على الحلّاج (858 – 922 م) الذي قضى بطريقة مأسويّة، والذي يظلّ من الشخصيّات الأكثر إشكاليّة عبر التاريخ الإسلاميّ.   
يتحرّك الشاعر البلوشيّ تحت هيمنة اسم الحلّاج وأفعاله البطوليّة وقصائده الزاخرة بالجميل والمبتكر والجريء، ويبدو مشغوفاً به مستمتعاً باقتفاء أثر كلماته وأصدائها عبر الحقب، ابتداء بالعنوان، مروراً بالإهداء الذي يقول فيه: «إلى الحسين بن منصور رماداً في النهر وروحاً في السماوات»، ومروراً بالقصائد (المبتدأ، المنتهى، من الفيض) التي تناجي الحلّاج وتستأنس بحضوره الطاغي فيها. فنقرأ في «المبتدأ»: «ليس ثمّة ما أكتبه عنك/ سوى وجهك المضاء في الريح/ وأنت تقطع الطرقات بقلبك الغضّ/ من معبر إلى آخر/ كمثل ورقة أينعت في بحيرة دم». ما يؤكّد أنّ الحلّاج مبتدأ القول ومنتهاه/ خبره. وتحضر المخاطبة والمناجاة والاعتراف بانعدام الحياة أمام هول المصاب وفداحة الخسارة، ومن هنا تكون الكتابة الشعريّة وسيلة متاحة لاسترداد تلك الشخصيّة الفذّة ونفخ روح الشعر فيها، عبر إحياء المآثر، وذلك في مسعى لإعادة العمل برؤاه وتصوّراته الثوريّة، وإعلاء لمذهبه الصوفيّ في الحبّ والتوحّد مع الذات الإلهيّة، وما شكّله من شرارة للتثوير اللاحق، بحيث أنّه غدا علماً لا يمكن القفز على اسمه أو تجاهله.
لا يقف الأمر عند استلهام مآثر الحلّاج واستذكار مناقبه، ولا توظيف فضائله لغايات معاصرة، بل يتعدّاه إلى استقاء مقاطع من رؤاه التأمّليّة في ديوانه «الطواسين»، حيث يحضر فيض صوفيّ وتمثّل لحالات الوجد والشغف، ويكون الاستئناس أحد تجلّيات الاقتداء، وربّما أحد نيّات الافتداء في حال الإمكان، ثمّ يكون البوح مرسال الشاعر إلى شاعره الأثير، مبرهناً له، ولأعدائه وأصدقائه ومحبّيه، أنّ آثاره ما تزال باقية فعّالة ومؤثّرة بجدّتها وجرأتها. ومتحدّياً فكرة إبقائه بعيداً عن الضوء، وكأنّ من شأن ظهوره حجب الأضواء عن الآخرين الذين يسعون لحجبه وإبقائه بعيداً على أمل إبعاد شبح تأثيره، يقول: «يريدون أن يبقوك بعيداً/ أو ربّما على مقربة من أجسادهم/ تلك التي تقطّعت من فرط بكائهم الليليّ/ إذ لم يكن أمامك سوى الرحيل إلى منائر الضوء/ لترجع بعدها مرتدياً بظلّ الليل/ وموقناً أنّ الخلاص غائر بعمق السماوات». ص13.

تحتلّ ثنائيّة الظلّ والضوء الكثير من المقاطع، تفرش ظلالها وأضواءها بنوع من التعاقب والتواتر، تتكرّر في عدّة مقاطع، وكأنّ الهمس ينوس بين الظلّ والضوء، وكأنّها تدليل على أنّ كلمات «المُصطلم» تظلّ في الضوء وتتصدّر المشهد مهما حاول أعداء الضوء والنور التعتيم عليها وإبقائها بعيدة قابعة في الظلّ عسى أن تظلّ حبيسة ظلمتها وظلامها. نراه حاضراً بصيغ متبدّلة، تارة تسكره الظلمات، وتارة أخرى ينبلج عمره، ثمّ نراه يصفه بنديم الليل المتهجّد في العراء.. وغيرها من التوصيفات التي تضفي عليه حالة من الأمْثَلة والفرادة والتميّز، وذلك في تحدّيه حالات الاغتراب والاستلاب الحاصلة معه، والتي ضيّقت عليه حتّى أودت به، وهو المنفيّ خارج الأزمنة والأمكنة، يجد مستقرّه في أرواح الشعراء وعشّاق الحقيقة، الذين يستلهمون من فيوض المعرفة وينهلون من ينابيع عطائه المتجدّدة.
نداءُ الغائب المستحضر يتخلّل صفحات المجموعة كلّها، يبلغ ذروته في صرخة الشاعر المدوّيّة وندائه الأخير لشخصيّته الأثيرة: «أناديك من أعلى سلّم الكون/ قلت اكفني كلّ هذا الخوف/ أنا القريب كأنّني الغائب/ وأنا الذاهب إلى مستقرّ دائم/ ثمّة أستظلّ بشعاع نجمة لامعة» ص 87. يستعين به ليبدّد وحشة أيّامه ولياليه ويدلّه إلى طريق النور بعيداً عن ظلمة الواقع وظلّه.
 
يستطرد عبدالله البلوشيّ في مناجيَاته للحلّاج، والتي تعبّر عن اشتياق دفين دائم الاستعار لا يهدأ للتماهي معه، ولو من باب القول الممكن، وكأنّه يعمل بالمثل القائل: ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه. وكأنّه بصدد تقصّي الحالة والنبش في الخلفيّات التاريخيّة، وإدانة التكفير ومزاعم الزندقة والهرطقة، وتبديد حالة احتكار النطق باسم الإله، أو المعاقبة تحت زعم الدفاع عنه، وهو الذي لا يحتاج إلى تلك الطرائق البائسة في الدفاع، والتي تسيء لقيم الدين أكثر ممّا تزعم حمايتها له، ويكون في سعي الشاعر لإحياء بعض من شؤون الحلّاج تنقيب عن الشجون الكامنة ومَتْح من بئر الذات المتماهية مع الآخر المنشود رمزاً وغاية في ذاته. 

لا يقتصر التداخل الأجناسيّ بالاقتراب من عنوان روائيّ، بل إنّ تقنية إحياء شخصيّة تاريخيّة بصيغة أدبيّة تتجلّى كتقنية روائيّة، وقد تكرّرت في العديد من الروايات التي تقارب التاريخ، أو تستذكر شخصيّات تاريخيّة مؤثّرة، ويمكن هنا التذكير بالعديد من الروايات التي اعتمدت هذه اللعبة الفنّيّة، والتي تكمن خلفها الكثير من المرامي الواقعيّة والمستقبليّة، سواء كان ذلك من باب البحث عن اعتبار واجب للشخصيّة أو ردّ اعتبار واحتفاء بها ولها. وفي كلّ الأحوال تكون الشخصيّة؛ موضع الاعتبار والاحتفاء، محتلّة الحيّز الأهمّ ومنفتحة على تأويلات المبدعين ومتفعّلة بتأثيرها عبر إبداعاتهم وكتاباتهم. وفي حالة «المصطلم» يلوح طيف رغبة في الانتماء للفعل البطوليّ للحلّاج، مع تركيز بادٍ على إبداعاته الشعريّة الثوريّة.
يشار إلى أنّ «المُصْطلم» صدرت عن دار «الانتشار العربيّ - بيروت» بدعم من مدوّنة «ساعي البريد».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق