إعداد الدكتور محمد المحروقي ومنشور في جريدة القدس العربي
في صيف 2010 الفائت كنت على موعد لزيارة جزء عزيز من وطننا العربي الإسلامي الكبير، يبعد عنَّا جغرافيّاً ـ نوعاً ما ـ ويربطنا به رابط متين من عرى الدين والتاريخ المشترك.
وعلى الرغم من قوّة الآصرة المشار إليها إلا أنَّ علاقتنا الحاضرة به في الغالب الأغلب علاقة ناقصة، ومشوبة بكثير من الضبابيّة والمعلومات الناقصة. إنها دولة جزر القمر الاتحاديّة، الدولة العضو بجامعة الدول العربيّة، التي لا نكاد نعرف كيف يُنطق اسمها على وجه اليقين. هل هي الـُقـمر؟ أم الـَقمر؟ ولا تسل عن معرفتنا بتاريخها وعناصرها البشريّة وآمالها وتطلّعاتها. وما ذلك إلا دليل على قوة ضعف العلاقات العربيّة، في أبهى تجلِّياتها.
زرتُ الجزر في ذلك الصيف ضمن الرحلات العلميّة لمشروع 'مصادر تاريخ العلاقات العمانيّة بشرق أفريقيا خلال الفترة (1624م-1963م)، وكنت قد زرت دول تنزانيا وأوغندا وكينيا في الإطار ذاته. وعدت ـ والحمد لله ـ بحصيلة طيبة من الوثائق والتقارير بعد أن غطّيت سبعة مراكز علميّة هناك، هي إرشيف زنجبار، وإرشيف بمبا، ومتحف القوميّة التنزانيّة بدار السلام، وجامعة مكاريري، والإرشيف الوطني الأوغندي بعنتبي، والإرشيف الوطني الكيني بنيروبي، ومتحف قلعة يسوع بممباسا. كما التقيت في تلك الدول الثلاث شخصيّات أكاديميّة وعلميّة على معرفة دقيقة بتاريخ العلاقات العمانيّة بشرق أفريقيا.
قبل ذهابي إلى جزر القمر بذلت جهداً للحصول على معلومات كافية تساعدني في مهمتي الصعبة القادمة، فالتقيت ببعض الشخصيّات القمريّة هنا في مسقط، أبرزها الأستاذ المرحوم جعفر جمل الليل، الذي فاجأنا رحيله في ريعان شبابه. وقد زوّدني الأستاذ جعفر بأسماء وعناوين شخصيّات علميّة في الجزر الثلاث؛ القمر الكبرى ومهيلي وهنزوان. لكنّ الصورة ظلّت ضبابيّة. وكان الدرس الأهم الذي تعلمته من خلال زياراتي المتكررة، تقريباً، لشرق أفريقيا أنك هناك على الأرض، وببعض الحنكة ستجد حتماً ما تبحث عنه. فمضيت إلى الجزر وكان ذاك.
ما ان اطمأنت قدماي ـ ولا أقول اطمأن مقامي- بفندق في مروني، العاصمة الرسميّة للدولة ولجزيرة القمر الكبرى، حتى بدأت بالاتصال بقائمة الشخصيّات العلميّة التي لديّ، وأولها الدكتور حامد كرهيلا حمد. في صباح اليوم التالي شرّفني الدكتور كرهيلا بالزيارة، وشرحت له مهمتي العلميّة وتحادثنا قليلاً، ثمّ انطلقنا بسيارته لترتيب أمور السكن التي لم تكن مستقرة بعدُ، وفي وضع مقترحات وتوفير معلومات لمهمتي العلميّة. منذ البداية كان تواصلنا مباشراً ورائعاً. أذكر بالضبط أن الدكتور كرهيلا انطلق يحدِّثني عن مشروع علمي شغل ذهنه طويلاً، ثم انصرف عنه لمقتضيات الحياة الدبلوماسيّة والسياسيّة لبعض الوقت. حدّثني بشغف وتفصيل عن جُومْبيه فاطمة، سلطانة موهيلي، وحياة القصر، والصراع حول نيل قلبها، للنيل تالياً بمملكتها، من قِبل متسلقي الداخل والقوى الإقليميّة العمانيّة والفرنسيّة، حينها.
أخذ نفساً طويلاً وقال الدكتور كرهيلا: يشغلني العنوان الذي يمكن أن أضعه لكتاب كهذا! قلت له: يا عزيزي، إنه صراع الحبّ والسلطة. أعجبته العبارة كثيراً، بل أسرته، وأخذ قلماً، وكأنما يخاف أن يفقد العبارة إن لم يدوّنها، ودوّنها. هذه هي اللحظات الأولى التي عرفت فيها الدكتور حامد كرهيلا، ووجدت فيه المثقّف والباحث والدبلوماسي المقتدر. كلّ ذلك يجتمع في شخصه، ليكوِّن شخصيّة قمريّة معتدّة بجذورها ومتطلّعة إلى غد أفضل لبلادها، يتناسب وحجم مقدّراتها التاريخيّة وثرواتها في البحر والبرّ.
لقد أثرى الدكتور حامد كرهيلا المكتبة العربيّة بأبحاثه المهمّة عن جزر القمر، ثقافتها وبعدها الإسلاميِّ العربيّ، ككتابه 'أثر الإسلام في تشكيل السلوك الاجتماعي في جزر القمر'، وكتاب 'العلاقات التاريخيّة بين الدولة البوسعيديّة وجزر القمر'. وهو بذلك يؤسس لمعرفة علميّة بهذه الدولة العربيّة التي نسيها إخوانها العرب أو تناسوها. ويأتي كتابه ' صراع الحب والسلطة: السُّلطانة جُومْبيه فاطمة (1841-1887) التنافس العُماني الفرنسي على جزيرة موهيلي القمريّة' تفصيلاً لنقطة توقـّف عندها في كتابه الثاني المشار إليه. وهو كتاب مهمُّ جداً في تاريخ جزر القمر من ناحية، وفي تاريخ دولة السيّد سعيد بن سلطان البوسعيدي (1804-1856) المترامية الأطراف في قارتي آسيا وأفريقيا. إنه يرصد بدايات التغلغل الاستعماري الغربي في شرق أفريقيا. ذلك الاستعمار الذي هيأ له المنصِّرون والمستكشفون والمغامرون الأوروبيون، بوصولهم إلى قارة الظلام، ودراسة هذه القارّة وإمكانياتها وعناصرها دراسة مستفيضة، كان لها جوانبها الإيجابيّة على مستوى معرفة العالم بمنابع نهر النيل، أهم نهر في الحضارة الإنسانية، والبحيرات الكبرى وغير ذلك من الكشوفات الجغرافيّة، كما كان لها جوانبها السلبيّة ؛ إذ قادت إلى استعمار هذه الأراضي واستنزاف مقدّراتها. وهو جانب، بل فكر غدا واضحاً من خلال قرينه 'الاستشراق'، الذي كتب عنه البروفسور إدوارد سعيد كتابه المهم بالاسم نفسه. و 'الاستفراق' على وزن المصطلح الأول لا يختلف عنه فكراً وممارسة، بل هو امتداد له.
وإلى جانب العنصرين؛ العماني والفرنسي، اللذين تنافسا على جزر القمر في هذه الفترة هناك عنصر ثالث، طالما تداخل ـ بحكم الجغرافيا- في مجريات الأحداث بجزر القمر، ألا وهو العنصر الملجاشي. فأقرب يابسة إلى الجزر هي جزيرة مدغشقر. ولهذا التقارب كان المؤرخون العرب القدامى يشيرون بجزائرالقمر إلى مدغشقر والجزر الأربع الأخرى. وأطماع سلاطين مدغشقر في الجزر قديمة قدم التاريخ، وكثيراً ما كانوا يغيرون على الجزر وينهبونها. والسلطانة فاطمة مثال جيّد على ذلك النفوذ الملجاشي. فأبوها السلطان 'رامنتاكا' ملجاشي الأصل، هرب من بلاده لصراعات على السلطة هناك، واستولى عنوة على الحكم في جزيرة موهيلي الوادعة في عام 1832م، وتسمّى باسم عبد الرحمن، وأعلن إسلامه، وتحالف مع السلطان سعيد بن سلطان.
العنصر الرابع هم الطرف الأضعف في هذه الحلقة، وهم سكّان البلاد الأصليون، الذين انقسمت ولاءاتهم بشكل متوزّع بين العناصر الثلاثة المشار إليها. ولا شك أن هناك قسم ثالث كان ولاؤه للأرض نفسها، أرض جزر القمر.
وفي فصول الكتاب يسرد الدكتور كرهيلا ذلك الصراع بين تلك العناصر المختلفة على الفوز بالأرض والفوز بالزواج من الأميرة الصغيرة. وهو يوضّح كيف أن الفرنسيين خططوا لهذا الأمر تخطيطاً بعيد المدى، حتى ظفروا برعاية الأميرة الصغيرة، مسخّرين لذلك المربيّة 'مدام درواة'، لتنشئتها تنشئة مسيحيّة 'صافية'. وقد اعتمد الدكتور كرهيلا في هذا الشأن وفي أغلب الكتاب على المصادر التاريخيّة الفرنسيّة، التي اعتمدت بدورها على تقارير رسميّة، ووثائق، ومراسلات محفوظة . ولا شكّ أن هذا أمر إيجابي. أعني به الاستفادة من المصادر الفرنسيّة، لأنها الأكثر إحاطة ودقة بتاريخ جزر القمر الحديث. وإن كان لذلك الأمر إشكاليّة لا تغيب عن العارف هنا. وهي أن الرؤية الفرنسيّة هي رؤية الآخر/ العدو، الذي من مصلحته تشويه صورتنا. إلا أننا لا نملك بديلاً عن ذلك بسبب غياب المصادر العربيّة، فضلا عن ضياع الوثائق العربيّة. والدكتور لم يقف أمام تلك الروايات الفرنسيّة المتحاملة على الوجود العربيِّ موقفاً سلبياً بل نقدها، ورفض منها ما لا يستقيم مع المنطق والواقع.
وكما دخل الفرنسيون بخططهم دخل السلطان سعيد بثقله، فأبدى رغبته في الزواج من هذه الأميرة، تتويجاً لعلاقة أبيها عبد الرحمن بالسلطان سعيد. ثمّ كان أن حالت مشاغل السلطان دون إتمام ذلك فأرسل قريبه سعيد بن محمد بن ناصر البوسعيدي، الملقّب بـ'مكدارا' (ت 1864م). وكان أن ظفر رسول السلطان سعيد بالزواج، وضمن بالتالي تبعيّة موهيلي لزنجبار. ولا تشير المصادر الموجودة إلى هذه الشخصيّة. وقد عرفت أن هناك منطقة بممباسا، يقطنها البلوش تسمّى 'مكدارا'. وأصل تسميتها أن سكّانها نقلوا، لأسباب نجهلها، من مساكنهم إلى مواضع أخرى. فكان الناس يسألونهم : لماذا نُقلوا؟ فيقولون: 'قدّر الله وما شاء فعل'. ويقولون أيضاً: مقادير. فسمّيت المنطقة 'مقدارا' أو 'مكدارا' بالنطق السواحلي. وربما سكن سعيد هذا بهذا المكان، فـُنسب إليه على عادة الثقافة السواحليّة.
ونشير أن أبناء 'مكدارا' حكموا موهيلي، وكذلك أبناؤه. ولم يمتد نفوذهم طويلاً هناك. وفي زيارتنا للجزر في العام الماضي التقينا باثنين من نسل 'مكدارا' هذا، وأطّلعنا على الوثائق الفرنسيّة والعربيّة التي تثبت أصولهم العمانيّة، وصوّرنا تلك الوثائق، والحفيدين الاثنين.
وقبل أن نختم هذا التقديم السريع نود العودة إلى نقطة ذكرناها في صدر هذه المقالة هي، كيف ننطق اسم هذه الدولة؟ كنت قبيل وصولي إليها أنطقها بضم القاف، نسبة إلى طيور القـُمارى، وهي بضم القاف أيضا، التي قيل إنها تكثر بها. وقد قرأت هذه المعلومة في مصدر لا أذكره الآن. وأذكر جيداً أن أحد طلاب أبي مسلم ناصر بن سالم البهلاني النابهين هو برهان الدين بن مكلا القمري، الذي برَّز في علم النحو وأصبح يشار إليه بسيبويه زنجبار. وكان شاعرا لا بأس بنظمه. وعندما ُتوفي أستاذه رثاه بقصيدة تذوب أسفاً على خسارة زنجباز علـَمَها الأمكن. وأذكر أنني صوّرت هذه القصيدة الصيف الماضي من مكتبة المعلم محمد إدريس بزنجبار. وقد ضُبطت قبيلة برهان مكلا، كما يتراءى لي الآن، بضم القاف. ويتبدَّى لي أمر جديد في اسم هذا العلم وهو أنه يحمل إشارتين إلى مكانين (مكلا، بحضرموت اليمن) و القمري، نسبة إلى موطنه الأخير. وهجرات الحضارمة إلى هذه الجزر وتأثيرهم فيها لا ينافسه إلا الأثر العماني، هجرة ً وحكماً.
أما النطق السائد لاسمها فهو جزر القـَمر، بفتح القاف، لا بضمها. وذلك ـ حسب الرواية المتداولة ـ أن المهاجرين العرب الأوائل في القرن الثامن الميلادي قبيل أن ترسو سفنهم على شواطىء هذه البلاد، وكان القـَمر بدراً، رأوا أشعته منعكسة على صفحة مياه البحر الهادئة، فقالوا: هذه جزر القمر. وهكذا أخذت هذه الجزر هذا الاسم الحالم الجميل.
ونحن نميل ـ رغم شيوع التسمية الثانية ـ أن التسمية الأُولى هي الأَولى، ذلك أنّ التسمية الفرنسية لها ـ وهي مأخوذة عن التسمية العربية ـ ترِد بضم القاف (Comoros). وما نقوله هنا لا يجاوز حدود الفرضيـّة، ومحاولة التفسير. والمسمّى الرسمي الآن بفتح القاف، والقوم أدرى ببلادهم.
أخيراً، وليس آخراً، نقول إن هذا الكتاب يسدُّ فراغاً في المعرفة التاريخيّة بالعلاقات العمانيّة ـ القمريّة، ويفتح باباً واسعاً للباحثين في عمان وجزر القمر، والباحثين، عامّة لنفض الغبار عن تاريخ مشترك علينا معرفته والاستفادة من جوانبه الإيجابيّة، دون تباطؤٍ ولا تقصير.
ملحوظة: هذا تعليق يصاحب الصورة:
السلطانة جومبيه فاطمة
(المصدر: المركز الوطني للتوثيق والبحث العلمي ـ موروني )CNDRS
رائع رائع راااائع... اندمجت جدا وانا اقرأ التحقيق السابق وشدني كثيرا...
ردحذفشكرا يا ساعي البريد على ادراجه...
العفو أختي الكريمة بالفعل يستحق القراءة والاهتمام وهناك أشياء كثيرة لا نعرفها عن تاريخنا وبحاجة إلى بحث مع إلقاء المزيد من الأضواء عليها
ردحذف