الثلاثاء، 17 يونيو 2014

الدهاليز المظلمة والمنيرة لكأس العالم









 
                                             محمد بن رضا اللواتي

عندما يستقطب جري اثنين وعشرين لاعبا خلف كرة مليارات البشر فأنت حينها لا تشاهد "لعبة" ولا يمكن وصفها بذلك إطلاقا! إنّها من الأحرى أن تكون منظومة رياضية تبث "ثقافة" تؤثر في تغير البلدان، فتصبح المجهولة معروفة، والممقوتة محبوبة، والفقيرة غنية، والغنية فقيرة، وتؤثر في القوميات فتجعل من بعضها شريرة، وأخرى خيرة، وتؤثر في المشاعر لتجعل من العدو اللدود صديقا حميما، ومن المقرب إلى القلب مبعدًا، بل ويمتد تأثير ثقافة هذه الرياضة الأكثر شعبية على وجه المعمورة ليصل إلى الأطفال والمراهقين، فيغدو "اللاعب" لديهم قدوة ابتداء من كيفية تصفيفه لشعره إلى مجمل ثقافته ورؤيته لما حوله من وقائع، (أكبر نسبة متابعة التغريدات هي للاعبي كرة القدم) والعجب أنّ اختلاف الانتماءات العقائدية لا تؤثر في اتخاذ المتعلقين بأولئك اللاعبين موقفا سلبيا منهم إن وجدوا أنهم ليسوا على وفاق مع معتقداتهم التي نشأوا عليها وورثوها أبًا عن جد.
ولا عجب حين نسمع تصريحًا من رجل بمستوى "بلاتيني" يقول بأنّ "فريق كرة القدم يمثل بنحو ما ثقافة"! ففي الأحوال التي يكون الأب على خصام تام مع ولده، يذوب الجليد بينهما حال مشاهدتهما في التلفاز مباراة فريقهما المفضل، وإذا بهما يقفزان فرحا، ويبتهجان طربا حين يكسب، بينما تصيبهما كآبة حادة عند خسارته. والحال على نقيضه لدى أحب الأصدقاء، فإذا افترقا، رغم قربهما، في التعلق بفريق دون غيره، نرى ما أسرع ما ينسيان ودهما عند مقابلة فريقيهما وجهًا لوجه، وكأن الحميمية لم تكن في يوم ما موجودة أساسا!
خمس من السنوات التي وقعت فيها هولندا أسيرة بين يدي الألمان أيام الحرب العالمية، والتي لا أحد منهم يود تذكرها، وإذا بهم يخرجون عن بكرة أبيهم وبنحو هيستري بعد كل لقاء يجمع بين فريقهم بالألمان، هذا إن فاز فريقهم عليهم، حتى قيل بأن أسوأ المباريات تأججًا بالحقد وسببا في تأجج نيران البغضاء هي مباريات الهولنديين في مواجهة الألمان.
في أعقاب فوز الهولنديين على الألمان إبّان بطولة أوروبا لكرة القدم عام 1998، صدر لمجموعة من شعراء الهولنديين ديوانًا شعريًا في كرة القدم حمل اسم "هولندا - ألمانيا" جاء في بعض قصائده:

"هؤلاء الذين سقطوا (أي الألمان)..

ارتفع الهتاف من قبورهم".

وكتب آخر في الديوان نفسه:

"تعميم أحمق من الشعب..

أو أمة أكرهها..

شعور التناسب..

عزيز جدًا على قلبي". (أنظر: الكرة ضد العدو: سايمون كوبر).

وكتب "ايريك فان" لابنته يقول لها:

"انظري عزيزتي انظري إلى التلفاز..

برتقال، غوليت (لاعب هولندي)= أبيض

أبيض، ماتهاوس (لاعب ألماني) =أسود" (المصدر السابق).

لقد كان الفوز لدى الهولنديين يساوي الفوز بالحرب، ويشفي الصدور من ضغينة يحملونها لجيرانهم الألمان بشكل مثير للتأمل والدراسة.
هذا الذي يفعله جري 22 لاعبًا خلف كرة، نصفهم ألمان ونصفهم هولنديون! وهذا الجري هو الذي منح المقاطعة الكتالونية الصغيرة "برشلونة" لأن تصبح ثرية للغاية، ويهتف جماهيرها في شعاراتهم التشجيعيّة لفريقهم الشهير مطالبين أن تتحول إسبانيا إلى دولة فيدرالية بعاصمتين مدريد وبرشلونة!
هذا الجري يسيل لعاب الألوف من المؤسسات التجارية الكبرى لتتنافس حتى الموت لأن تكون ساعاتها أو سياراتها أو ملابسها أو صفاراتها أو أحذيتها أو مختلف منتجاتها إمّا راعية لبعض تلك المباريات أو تظهر في لوحات الإعلانات المصفوفة في جميع أرجاء الملاعب الخضراء، حتى أنّ بعض الصحفيين وصف كأس العالم عام 1994 بمهرجان التجارة.
بربك هل جلبت لعبة، ملايين من قصاصات الورق، ومئات من القنابل الدخانية، وشهدت مدرجات مشاهديها هدير الألوف بالأناشيد والترانيم والشتائم والمدائح والبكاء والضحك؟
اتسع كأس العالم ليفسح فيه مكانًا حتى للسياسة! فعندما وقفت الأرجنتين بفريقها في مواجهة البرازيل عام 1978 في الأرجنتين، وكان مجموع رواتب أؤلئك الاثنين والعشرين لاعبًا يصل إلى 60 مليون دولار أمريكي، في الوقت الذي كانوا يقفون على ملعب تمّ تشييده على مساكن للبائسين من الأرجنتينيين الذين بالكاد لم يكونوا يجدون قوت يومهم إلا مرة أو مرتين في الـ 24 ساعة، كان حكم الجنرالات قد فرض أن تزيلها البلدوزرات الثقيلة ليس فحسب تشييدًا لملاعب جديدة طبقًا لشروط "الفيفا" وإنّما لتحسين وجه الأرجنتين أمام زحف العالم نحوها آنذاك وإظهارها بحلة الغنى والثروة من جهة، وتثبيت أركان حكومة الجنرالات أكثر بإلهاء الناس عن التفكير في السياسة والعسكر لمدى عدة سنوات قادمة
ولما خرج الفريقان بنتيجة سلبية، وبات بلوغ الأرجنتين للمباراة النهائية عسيرا لوقوف البيرو في وجهها، رفع البنك المركزي الأرجنتيني يده عن ودائع البيرو بنحو 50 مليون دولار وأفرج عنها، بينما شحنت الطائرات 35 ألف طن من الحبوب إلى البلد المهدد اقتصاديا، بمقابل 6 أهداف فقط تحرزها الأرجنتين لتطأ الملعب الذي سيشهد المباراة النهائية! (المصدر).
ورغم أنّ حكومة الجنرالات قد دفعت فاتورة كأس العالم بما يناهز 700 مليون دولار، وهو رقم يزيد عما دفعته إسبانيا لتنظيم هذه البطولة عام 1982، إلا أنّه ومع هذا فقد اعتبر المحللون أنّه كان ثمنا "معقولا" لكي يخرج في أعقاب فوز الفريق الوطني بالكأس المتشددون والمعتدلون، والناقمون على الوضع والأثرياء، والكاثوليك والبروتستانت مع اليهود يعانقون بعضهم بعضًا ويحمل الجميع علمًا واحدًا هو علم الأرجنتين!
لقد وصف الإعلاميون الضجة التي أعقبت الفوز بهستيريا فاقت خروج الناس إبّان حرب الفوكلاند حتى.
واليوم، في الأرجنتين يعد موضوع "كرة القدم والسياسة" مجالا أكاديميا محترما للغاية، يشبه موضوع الفيزياء أو علم الأعصاب كما يقول "كوبر".
والسؤال هنا هو: هل يمكن صياغة نظرية تفلسف لنا هذه الثقافة التي تؤثر بهذا العمق السحيق، وعلى هذا الكم الهائل من البشر، حتى يمكن صياغة منهج يوصي بكيفية تطبيق التأثير الإيجابي منه ميدانيًا لأجل تحقيق مآرب التقدم والتحضر وقيم الجمال والفضيلة، وكيفية إدارة المخاطر منه والحد من جانبه السلبي أيضا للغرض ذاته؟
خطت اليونسكو خطوة في هذا الاتجاه عندما درست شدة تأثير هذه الرياضة على عقول الناشئة، فعقدت اتفاقات مع "الفيفا" بموجبها يتواجد في كل مرة فريق الأطفال في الملعب، ليصاحب كل طفل مع لاعب، في محاولة للفت اللاعبين بأنّهم ينبغي عليهم أن يكونوا قدوة صالحة للطفولة التي تشاهد جريهم خلف الكرة المستديرة وتحاكي تصرفاتهم وسلوكهم أيضا. ولا يزال العبور من الدهاليز المظلمة إلى المنيرة منها لهذه اللعبة فرضًا من فروض مفكرينا، لكنني شخصيا أجد هذا فرضا عسيرًا عليهم في زمن باتت فيه نداءات القتل بدم بارد وبمدية الطائفية يجري في بلداننا على قدم وساق.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق