السبت، 30 يونيو 2012

بين قدرين


رواية تدور أحداثها في السلطنة لكاتب أردني

بقلم المبدع: رأفت سارة صحفي وروائي يعمل في السلطنة



الإهداء:


إلى هلال الذي أجل موته غير مرة، ليحملني كتابة ما عجز عن قوله..

قبل أن يرحل حاملا معه قلب عائلته التي أهدتني يومياتها، وعذاباتها

...لتتفرغ للسفر معه!


جزء من الفصل الأول: الأساس والبديل

أثارت بقع الدم الصغيرة المتسللة من حقيبة مهملة ، فضول القط المتربص بين أشجار الغاف والسمر والهارب ،كأكثر سكان مسقط من الحرارة القائظة في شهر يونيو وما يسبقه ويليه بأربعة أشهر.
 لكنه لم يكن وحده من أسالت بقع الدم - لعابه - طمعا في وجبة مبكرة تنسيه قحط مساء كامل عاشه ببطن جائعة ، ففي أعلى أغصان الأشجار طائرا ( اليمام ) كانا يهمان بالتحليق ، على ما يبدو ، صوب البحر ، الذي يتفنن الصيادون في إستهلاك خيراته ، ووضعها في شباك ينصبانها في العذيبة والقرم وبر الجصة ،
وغيرها من الأماكن التي يسهل منها شحن ( الغنائم) المتبقية ، بعد توزيع بعضها على المتربصين الآسيويين ، الذين يقابلون القوارب العائدة من رحلاتها بابتسامات وببضع الأواني والأكياس ، طمعا في ما يسد رمق جوعهم اليومي للأكل المجاني الفائض عما لا يمكن بيعه،  لصغره وضآلته أو لرداءته.
 فيتقاسمونها مع الطيور التي تتقاطر هي الأخرى في جماعات أو فرادى،  أملا في بلم البحار أو أسماكها ، والتي بدت غير مطمع لتلك العائلة من اليمام ، التي فكرت على ما يبدو في تغير وجبتها الصباحية ، بما ينتج ويتبع تلك البقع الصغيرة من الدماء،  وهي تنساب على البلاط الخارجي لممر المسجد بشكل أغراها.
 هي ، والقط المتربص من بعيد والخائف مثلها من الاقتراب أكثر ،بعدما سمعوا جميعا ، خطوات أدمية تقترب أكثر من الحقيبة المندفع منها صوت أنين ، ظل يكبر ، حتى لفت انتباه صاحب الخطوات الصباحية.
 إمام المسجد الصغير بذلك المستشفى الذي يؤمه مصلون من أطباء وممرضين وزوار مناوبين مع مرضاهم وبعض من يتصادف مرورهم في الطريق من بوشر لغلا.
.. اقتربت الخطوة وتبعتها ثانية وثالثة فرابعة وخامسة ، ووسط لملمة الليل بقايا أوراقه المبعثرة  علا صوت بكائه ، فانتبه إليه (الإمام) الذي أبطأ الخطو الحثيث نحو الغرفة الصغيرة المسماة مسجدا ، ليتبين مصدر الصوت وكنهه قبل أن يرفع أذان الفجر.
اقترب أكثر وبدأت ملامح الصوت تتبلور.. رضيع ملقى بإهمال في لفة ، وحكاية بدأت سطورها في الكتابة للتو.  
كلاهما وقع في غرام الآخر ، منذ التقت عيونهما للمرة الأولى في المستشفى.
 أب يبحث عن ابن ،وابن يبحث عن أب، فعل فعلته وتركه يصارع وحيدا قدرا مجهولا.
كان من الممكن أن يبقى بلا أثر أو ذكرى،  لو لم يسمع صراخه إمام المسجد الذي سمع أنينه ، وهو ملقى بعد ولادته بدقائق،  بإهمال في حقيبةٍ أمام باب المسجد الذي يغلب أن يكون شاهدا على حدثين.
 مجيئه لعالم لم يختاره، وهروب والدته التي اعتقدت – على ما يبدو- أنها دفنت سرا في حقيبة سوداء ، كمصيره الذي القي في تلك السهرة المسقطية الفائضة،  في مهب ريح ذلك الرجل الذي كان يتهيأ لأذان الفجر حين سمع شكواه.
 فسلمه،  لثلة من ممرضات، تكفلت كل واحدة منهن بلعب دور الأم، مع الحاضنة الزجاجية التي وضع فيه لتحسين الحالة الصحية التي وجد عليها.
 هكذا بإهمال وبلا ترتيب ، وضع في حقيبة ،قد نخبئ فيها أموالنا أو كتبنا، أمتعتنا ،وملابسنا. أمّا أن نخبئ فيها جنينا، أكل وشرب مع أمه ، في أحشائها ، وتقلب في كيسه الصغير حول أمعائها ، ودرس كافة تجاويف بطنها ، وكان قريبا من قلبها، أمعائها، أحشائها .. والآن تسلمه لرياح القدر.
 أي أم ... تلك التي صبرت تسعة أشهر وتحملت آلام المخاض والنزف، لتخرجه من ظلمات بطنها إلى ظلمات الحقيبة السوداء .. والحياة.
هل كانت تراقبه من بعيد، مؤكد أنها كانت تحبه، وإلا لرمته في مكان مهجور وتركته طعاما للحيوانات الضالة، لكن من يجزم؟
فربما قادها خوفها وقلقها لتركه على باب المسجد ..كي لا يراه أهلها!
إذن هل كانت تخشى السؤال، القيل والقال، أتكون خائفة من الفضيحة، وأية فضيحة؟ ألم يفضحها من قبل بطنها ، الذي انتفخ بما يكفي لإثارة الشبهات؟
 أم  أنها اختلفت مع أبيه  ، في الفترة الأخيرة بعد ما قرر التخلي عنها ؟
 وهل تراه فقيرا خشيت على ابنها من فاقته !!
..  وانفتح باب الأسئلة ولم يقفل، بعكس تلك الحقيبة التي رميت في الزبالة بعد ما أدت المطلوب منها!
 لكن ما المطلوب؟ وجبة طعام" ديلفري" ، وصلت حيث خطط لها.
 هكذا بكل بساطة، لذة ، ونشوة تصل للذروة ، وصبر طويل على آلام النفاس ، وانقطاع الدورة الشهرية والوحام.
 وهذا الضيف الذي كبر معها، زاد من ثقلها، وقلل من حركتها، ترميه في حقيبة،  بعد ما هربت سريعا عن أعين الممرضات.
تهرب.. يا للجرأة ، حتى قبل أن يغيب القمر بالكامل ، تسبقه في الهروب خوفا من شمس توضح الأمور وتكشفها  ؟
 أين الحرس والممرضات، الم يلحظ أحد ارتباكها؟
 الم يسمع أحدهم صوته الباكي، الم تشم أية أنثى، رائحة دمها الفائض بعد الولادة.!
 لكن من يخمن أنها ولدته في المستشفى، فالحبل السري آخر ما يربطه فيها كان موجودا بتلك الحقيبة، دمه المتماهي مع دمها ، كان موجودا أيضا.. أيكون سرها الدفين إلى الأبد!!
لكن ماذا لو كان زوجها أو صديقها من ألقى بالرضيع في تلك العتمة،  وولى هاربا بسرعة لا يمكن أن تقوم بمثلها ، وهي المتألمة من أثار الوضع ؟
 الم يؤلمها انقباض وانبساط بطنها، تجميع قواها وفردها طمعا في اتساع الفجوة بين ماضيه وبين مستقبله الذي سيتشكل في العلن.
 صرخاتها ، والعرق يتصبب منها ، وتلك السوائل التي تنز لتمهد له الطريق، الم تزعجها أيضا ؟
..أليست أنثى رقيقة ،  أحبت وعشقت وانساقت للإغواء ، فغلبها حملها .!
إذن فليذهب هو ويلقيه إلى حيث يمكن لمرهف القلب أن يجده !
 ومن يكون ذاك غير مصل راغب في نهاية تمكنه من دخول الفردوس الموعود ؟
 فليكن المسجد إذن هو المكان الذي يختبر فيه الرضيع أول مغامراته ، فان فشل صلوا عليه سريعا ، وان عاش فلا بد أن يكون رفيقا به ، من تعز عليه ترك صلاة توصف بالصعبة، ومبشر مؤتيها في الظلام ، بالنور التام يوم القيامة .
 وعليه فمن بتلك المواصفات يغلب أن يكون راغبا بالنور،  ولمزيد من الوضوح والسطوع ، لا ضير أن يرفق بالرضيع،  الذي بدا واضحا أن من تركه هناك كان دارسا للمكان بالضبط ، ومخططا ومترصدا  له.
 فالمسجد قريب من الشارع العام ، وهو أول من يستقبلك إن لم تكن تتهيأ للمكوث بالمستشفى ، ما يعني أن المرضى وأقاربهم وذويهم سيكونون على الطرف الأخر منه ، وبذا يسلم قليلا من العيون المترصدة،  التي يمكن الاختفاء منها بالسير سريعا بين الشجيرات الصغيرة التي تحيط بالمسجد ، فتمنع النظر إلى ما يدور بداخله، ولو جزئيا.
  ناهيك عن أن وضعه في حقيبة سوداء مخصصة أصلا  لوضع الملابس بداخلها ،  تمهد للرد على أي سؤال محتمل (مريضي هنا)!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق