الأحد، 5 سبتمبر 2010

بريد السما: قصة للدكتور محسن خضر*




ارتدي سترته السوداء‏,‏ بدأ جولته الليلية المعتادة تصفح وجهه برودة شارع جسر السويس تنتابه رعشة مبهجة تشمل تكوينه يستعيد ذكري لسعة هواء الصباح المبكر في عمر المدرسة الابتدائية‏.‏
يغادر منزل اسرته بمنطقة غمرة‏,‏ إما ان يشق شارع السكاكيني بإتساعه المزعج بترامه الحديدي او ينحرف الي شارع رمسيس الصاخب‏,‏ تقع مدرسة صقر قريش في مصب الشارعين المتلاقيين عند بوابتها الامامية‏,‏ تستغرق المسافة خمس دقائق او اقل اذا حث الخطي‏,‏ يرتدي المريلة البيج المصنوعة من التيل نادية حسب الزي الموحد لتلاميذ المرحلة الابتدائية ايامها‏.‏

قرآن السادسة من المذياع بصوت الشيخ الشعشاعي المنبعث من الحوانيت المفتوحة هو المحفور في ذاكرته من يومها‏,‏ أخه الاكبر وحده الذي يتجه في الطريق المقابل الي مدرسة محمود فهمي المعماري في الجهة المقابلة في وقت ما كان يصطحب اربعة من اخوته الاخرين ملتحقين بنفس مدرسته بعده‏,‏ ولكنه كان اول من تخرج فيها لينقص الموكب الصباحي واحد فواحدا بالترتيب‏.‏
بعد سنوات التعطل بعد التخرج في الجامعة التحق بشركة كيماويات حكومية‏..‏ سنوات مضت قبل ان يبيعوا الشركة لمستثمر اجنبي‏,‏ اصابته هوجة التصفية والاستغناء‏,‏ وعاد الي الشارع ثانية‏.‏
عزف عن استكمال دراسته العليا‏,‏ سيطرت عليه فكرة السفر سار في اتجاهين‏:‏ الحصول علي منحة من جامعة اجنبية لدراسة الدكتوراة او السفر شرقا الي الخليج للعمل قدم في اعلانات توظيف خليجية عشرات المرات ولم يوفق‏.‏
اصبح موزعا بين بريد الشرق وبريد الغرب فأيهما يأتي بالخلاص؟
يتذكر جيدا اليوم الفاصل كان يوم ثلاثاء‏..‏
منذ طفولته يهاب هذا اليوم‏,‏ فيه ماتت شقيقته الصغيرة آمال‏,‏ وفيه انهار منزل اسرته في غمرة مع أربعة منازل مجاورة في حادث مؤسف تناقلته الصحف اياما‏,‏ وفي مساء ثلاثاء انهي قصة حبه الكبيرة مع زميلته الجامعية‏,‏ وحتي طرده من شركة الكيماويات كان يوم ثلاثاء‏,‏ امتلكه هاجس ان موته يوم ثلاثاء سيكون‏.‏
استقبل برودة جسر السويس منتشيا تمهل قبل مغامرة عبور الشارع امام رتل السيارات المتدافعة بدا له اسم الشارع سخيفا‏,‏ الطريق يفضي في نهايته الي مدينة الاسماعيلية لا السويس‏,‏ يليق به اسم الفريق عزيز المصري كامتداد له‏,‏ عبر الشارع الفاصل بين مدخل مدينة ابوغزالة وناحية صبحي الحاتي‏,‏ عن يمينه مصعد ومهبط كوبري التجنيد‏,‏ دلف الي شارع ثم يمينا الي شارع راضي‏,‏ امام بناية صديقه الراحل عبد اللطيف زيدان قرأ الفاتحة‏.‏
افتقد نبله واهابه طويلا يشتاق اليه فيحلم به دوما‏,‏ كان اذاعيا ومترجما وقاصا مميزا‏,‏ الان يتجه يسارا الي بوابة نادي النصر عبر شارع احمد علي حسين متجها الي كشك صحف مهران بميدان المحكمة‏,‏ الساعة كانت تجاوزت نصف الثانية عشرة من صباح الاربعاء‏.‏
شعر بضربة خاطفة فوق كتفه الايمن‏,‏ وجد تحت قدمه القذيفة الغادرة‏,‏ كانت مشبك غسيل ازرق اللون في وسطه ورقة مطوية‏,‏ نظر يمينه فلم يجد الا نوافذ دار المسنين بطوابقها الخمسة مطفأة الاضواء داس بقدمه علي المشبك مغتاظا ومحاولا هرسه الا ان إغراء الورقة المطوية استوقفه فرد الورقة وقرأ ما يشبه الرسالة‏.‏
عزيزي‏...‏
راقبتك مرارا في نفس المكان ونفس التوقيت بدا كتفاك‏.....‏ وكأنك تحمل جبلا فوقهما ما فات فات‏,‏ ومامات مات‏,‏ هل تقطف ثمارا لم نبذر بذرتها؟‏..‏
هل ـ نطير بأجنحة ليست لنا بل ثبتها الاخرون في اجسادنا‏..‏ ما رأيك؟
بدا لغز الرسالة وظروفها وفحواها دس المشبك والرسالة في جيبه ونسي امرها في الايام التالية تكررت القذائف المجهولة كثيرا ما كانت تطيح بعيدا عنه الا انه استنتج انه المقصود بها عندما يرفع عينيه سريعا لم يلحق اليد التي قذفتها شده الامر تماما وبدا انه يعيش مشهدا من الف ليلة او لغزا مركبا‏.‏
ليلة أخري‏..‏ رسالة جديدة‏..‏
عزيزي‏...‏
تعودت ان اكتب رسالتي وانا مستمعة الي اغنية ثومة في الخاتمة في نهاية بث محطتها اليوم غنت انا في انتظارك وبالامس شدت بـ اسأل روحك‏..‏ افضل دوما كلمات رامي مع ألحان السنباطي او كلمات بيرم التونسي مع ألحان زكريا احمد‏..‏ بليغ عادة ينسجم مع عبد الوهاب محمد وربما مأمون الشناوي‏,‏ اما عبد الوهاب فينفتح علي اي مؤلف فهو ذكي ومرن‏.‏
بالمناسبة‏,‏ هل سمعت عن زميلتي سلوي حجازي‏,‏ كانت وردة التلفاز في عصرنا اسقط الإسرائيليون الطائرة التي ستقلها اثناء عودتها من ليبيا سنة‏1973‏ م ضل الطيار طريقة حلق في سيناء‏,‏ كان معها وزير خارجية ليبيا ووفد من بعثة التلفاز‏.‏
اعلق صورتها في حجرتي دوما سل والدك عنها فربما لم تكن قد ولدت بعد يومها‏.‏
لا ارتجي منك سوي الاصغاء لا اجد من اتحدث معه مزق رسائلي المتطفلة بعد قراءتها لاقبلها من فضلك‏.‏
بالتكرار ادمن رسائلها‏,‏ هل ساق القدر بريد السماء كما اسماها لتوقف حالة التوهان والاحباط التي تفتته زلة ان يقتحم احد خصوصيتك والثانية ان يكون مجهولا والثالثة انه لاتسنح له فرصة الرد بدت المسألة مشهدا ساخرا في مسرحية كوميدية‏.‏
يفضل سماع شرائط عبد الحليم وفيروز ولكنه ضبط نفسه يضبط المؤشر علي محطة ام كلثوم‏,‏ منتظرا اغنية الختام‏,‏ وربما لو تذكر لسمع اغنية الاستهلال في الخامسة عصرا كما تعود وقت الاستذكار في سنوات الجامعة‏.‏
بعد ان تصعد الجبل بخفة ان تسقط الصخرة كما اشقت بروميثيوس لكن قد تكتشف سقوط حقيبتك او هاتفك او فردة حذائك فماذا ستفعل؟‏..‏ هل ستهبط ام تنسي المسألة برمتها؟
في يوم تال تأخر في المقهي ـ اسرع الخطي مهرولا الي ميدان المحكمة مر علي منزل عبد اللطيف زيدان وقرأ الفاتحة كعهده‏..‏ عندما وصل إلي شارع نادي النصر وجد رسالة الليلة ملقاة في مكانها المعهود‏,‏ رفع رأسه ولم يجد الا النوافذ مطفأة‏.‏
كانت الواحدة والنصف صباحا قرأ الرسالة من فوره في المسافة الفاصلة بينه وبين كشك الصحف‏.‏
عزيزي‏...‏
من حقك ان تسألني من أنا؟
انا يا صديقي مذيعة تلفاز معروفة بل لعلي كنت في الستينيات والسبعينيات اشهر مذيعاته النزيلات في الدار يلتفون حولي دوما ويذكرونني ببرامجي‏,‏ ولعلي نسيت بعضها‏,‏ يذكرون حلقات كنت استضيف فيها اشهر فناني ومثقفي وساسة البلد ياه تاريخ‏,‏ مات ابني الاكبر وكان طبيبا في تفجير ارهابي مجنون اثناء سيره في ميدان عبد المنعم رياض‏,‏ وبعدها رحل زوجي‏,‏ الرجال في شرقنا يموتون قبل نسائهم بخمس او سبع سنوات عادة سافرت ابنتي خريجة مدارس الفرير كأمها ثم درست بالجامعة الأمريكية وسافرت الي الولايات المتحدة للدراسة وتزوجت زميل دراسة ايطاليا وتخصصت في المسرح ودرسته لاحقا هناك‏,‏ عندما تقدمت في العمر‏,‏ بدت الكوارث تتحدي متلاحقة اقمت بمفردي في عام‏,‏ لم يعد ما يربطني الكثير بها‏,‏ كان اختياري دار المسنين حلا معقولا‏.‏
تنازلت عن شقتي الواسعة بعمارة راقية لصاحب البناية واخترت ان اقضي بقية عمري في القراءة والتعبد هل يهمك معرفة عمري؟ لايهم‏..‏ هذه قصتي باختصار‏..‏
خمن انها تقيم في الطابق الرابع او الخامس من دار المسنين‏.‏
المسافة والزاوية التي تقطعها رسالة السماء تشي بذلك‏,‏ راجع اسماء من يعرفهم من الرعيل الشهير لمذيعي التلفاز‏,‏ استبعد بعض من مات والبعض من هاجر او مازال نشاطه في اللجان والمجالس او الكتابة للصحف لم يوفق تماما في تحديد شخصيتها‏.‏
اتسعت مساحة الرسالة المجهولة في خواء حياته يقطع الوقت الثقيل منتظرا قدوم الليل لابد انها تحتفظ ببقايا جمال يليق بمذيعة خمن عمرها ما بين البقية كانت في العشرينيات من عمرها عندما ظهرت قبل اربعين او خمسين عاما‏.‏
لايخجل من الاعتراف بانها تسللت الي حلمه‏,‏ وبدا يراها بشعر اشيب ووجه غير محدد‏,‏ بدا بريد السماء النقطة التي تتمحور ايامه حولها فقد حماسه بعض شئ لمخاطبة جهات العمل والدراسة في الشرق والغرب وان ظل مواظبا علي قراءة اعلانات الصحف ومتابعة الانترنت وان كان بالية باردة‏.‏
عزيزي‏...‏
ما يميزني عنك غير العمر والشهرة‏,‏ مساحة الحلم جيلنا كان يحلم احلاما عظيمة انا بنت الثورة‏,‏ ولم تكن اغاني حليم‏,‏ واحلام صلاح جاهين واحمد شفيق كامل ومرسي جميل عزيز وهما‏,‏ حلمنا بمصر جديدة‏,‏ وبأمة عربية ناهضة‏,‏ وبعالم حر ومسالم‏,‏ صحيح ان الهزيمة صدمتنا ولكننا لم نندم يوما علي الحلم‏,‏ هل سمعت عن شعب في العالم حارب من اجل اقامة سد للعمران والخير؟‏..‏ كل مدرسة ومصنع ومستشفي كانت تعبيرا عن الحلم وكانت طلة عبد الناصر وهو يخطب في الحشود بوابة للحلم والعمل‏.‏
هل يدرك جيلك معني الكرامة والعزة؟ هي مفردات عشناها وقدسناها ودخلت في تكوين دمانا وخلايانا هل وهم الصلع واخر الحروب مربط الفرس؟
جيلكم لم يعد يحلم ما لديك رغبات او حاجات اقرأ الصحف واتابع المذياع والفضائيات احزن لان شعبنا وامتنا كفت عن الحلم اصبحنا نحلم برغيف او كوب مياه نظيف أو علاج مجاني‏,‏ هذه رغبات أقرب إلي حياة كائنات لا إنسانية هل سألت نفسك لماذا عقمنا الحلم؟‏.‏
من الأنانية أن تخاطب الآخرين ولا يسمعون صوتك‏,‏ ومع ذلك يرضيه أن ما يقوم به مهما ولو لإنسان واحد في هذا العالم‏,‏ مجرد أن تكون أذنا واسعة تسمع لكن وراء الحديث توجد شحنة من ألفة وثقة وتعاطف‏.‏
فكر أن يقابلها‏,‏ ولكن كيف يهتدي إليها‏,‏ ربما تقوده إليها شهرتها في الدار ولكن ما عاقبة لو فعلها واقتحم حياتها دون استئذان‏.‏
يحدد شكل العلاقة مضمونها‏,‏ وألا يشي شكلها بمضمون محدد ليس من حقه أن يتجاوزه‏,‏ يؤرخ في الخطابات حسب اليوم والتاريخ والساعة‏..‏ تتكاثر مشابك الغسيل الزرقاء اللون في مكتبه‏,‏ يعيد قراءة الخطابات عدة مرات محافظا علي الترتيب‏,‏ تأمل خطها الرفيع الذي يخلو من أخطاء لغوية تليق بمثقفة متمكنة‏.‏
عزيزي‏..‏ هل فكرت يوما في جغرافية المكان؟ لا أقصد عبقريته كما يقصد جمال حمدان في البناية الخامسة بعد الحاتي بخصوصيته‏,‏ وأمام المريلاند كانت تقطن لبني عبد العزيز في الوسادة الخالية‏,‏ وكان حليم يسير علي الرصيف المقابل‏,‏ بموازاة حديقة المريلاند‏,‏ وكانت هذه المنطقة منطقة لسباق الخيول حتي الخمسينيات‏.‏
أما المكان الذي يتقابلان فيه ويرسمان قلبا علي شجرة‏,‏ فكانت منطقة مهجورة داخل حديقة المريلاند حاليا‏,‏ مازال مسكن عبد الحليم في الفيلم في شارع العزيز بالله قائما حتي الآن‏,‏ رقم‏10‏ بجوار مسكن شيخ الأزهر الراحل عبد الحليم محمود‏,‏ وكان يصعد الدرج وهو يغني أول مرة تحب ياقلبي أما اسطبل خيول فريد الأطرش فيقع بجوار الكنيسة الصغيرة بأول شارع جسر السويس بعد اشارة القبة‏,‏ صورت فاتن حمامة وعمر الشريف فيلم سيدة القصر في قصر الطاهرة‏,‏ وكذلك كانت سرايا زكي رستم في فيلم صراع في الوادي‏,‏ أما استراحة أحمد مظهر مهندس الري في فيلم دعاء الكروان فصورت داخل فيلا محمود مرسي القديمة بشارع ترعة الجبل‏,‏ هل تعرف تاريخ المنطقة التي تحيط بنا؟
مبني المحكمة نفسه كان مدفنا‏,‏ وكانت المحكمة آخر حدود مصر الجديدة من جهة الغرب حتي الخمسينيات‏.‏ ومكان كازينو غرناطة بروكسي صور مشهد استعراض سلاح الفرسان الملكي الشهير في فيلم نهر الحب والذي يسقط فيه عمر الشريف من فوق حصانه‏,‏ كان المكان في الحقيقة مضمار الخيول الذي كان الملك فاروق يحضر فيه عروض سلاح الفرسان‏.‏
هل تعرف هذا التاريخ؟
يحسد الراسلة المجهولة علي دأبها علي الكتابة‏,‏ تكتب يوميا كأنها تتنفس أحيانا‏..‏ تدخل مفردة فرنسية في سطورها لتجسد المعني المحدد في ذهنها‏,‏ يلجأ إلي قاموس فرنسي لترجمة الكلمة التي تكتبها بخطوط أنيقة متشابكة‏.‏
هو الذي يشعر بغربة في الزمان والمكان‏,‏ يحدق في وجوه البشر‏,‏ فيجدها كابية منكسرة‏,‏ في مترو الأنفاق يلمح بسهولة هذه العتمة التي تكسي وجوه بني واصفهالعيون مطفأة والحوار علي ندرته صاخب وعدواني لكنه يخمد بسرعة استوقفه تعبير لكاتب ساخر في صحيفة مستقلة الناس مربوطة‏.‏
يجتهد في فهم ظواهر غريبة‏:‏ خطف الأطفال لاقتطاع أعضائهم‏,‏ بيع اليائسين لأعضائهم‏,‏الموت كمدا في طوابير الخبز والمعاشات‏,‏ التحرش بالفتيات جهارا نهارا في الشوارع‏,‏ هوس الكرة نصر وهزيمة‏,‏ هوس أجهزة المحمول‏,‏ وباء الدروس الخصوصية وهجر الفصول‏,‏ مؤشر الطلاق والعنوسة والزواج العرفي والبطالة والفساد يلهث في جنون‏.‏
ما يؤرقه أكثر هو عجزه عن الحب‏,‏ انضبت عواطفه أم مسخت النساء‏!‏ الجمل النادرة التي يتبادلها مع أفراد أسرته تؤشر لجفاف آخر‏,‏ حتي الأصدقاء تبادلوا واختفوا‏,‏ أتظل المدينة سحابة عجز تاريخية؟
عزيزي‏..‏
سأقرأ عليك عناوين بعض قراءاتي الأخيرة‏,‏ سأستبعد الكتب الفرنسية فربما لا تعرفها‏,‏ غرفتي في الدار مكدسة بعشرات الكتب وأكاد أتحرك فيها بمشقة‏,‏ تحول الأمر إلي تندر المشرفين‏,‏ والنزلاء يسمونني هنا الجبرتي‏,‏ احتفظ بمجموعات كاملة لنجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم وعبد الحليم عبد الله‏,‏ أحيانا تهفو نفسي إلي أشعار المتنبي وابن الرومي وأبي نواس‏,‏ احفظ مجموعة كاملة من أشعار إبراهيم ناجي‏,‏ وصلاح عبد الصبور ونزار والبياتي والسياب‏,‏ مجموعة مؤلفات جبران الكاملة لدي‏,‏ يجذبني المازني بشكل خاص وكذلك كامل الشناوي‏,‏ لا أتابع الجديد دوما‏,‏ ولكن اقرأ لصنع الله والغيطاني وبهاء طاهر ورضوي عاشور‏,‏ احتفظ بعبقرية مصر لجمال حمدان وبعض مؤلفات المسيري‏,‏ وكل دراسات سيد عويس وزكي نجيب محمود وأحمد بهاء الدين‏,‏ هل تعرف هذه الاسماء؟
جاهل كبير‏..‏ ليعترف دون خجل‏.‏
بدأ يتردد علي مكتبات مصر الجديدة والزيتون وأحيانا يستعير من أصدقائه أو يذهب إلي دار الكتب بالكورنيش ليقرأ نماذج كتابات لهذه الاسماء التي ذكرتها في رسائلها‏,‏ هل يعزي الأمر إلي دراسته العلمية الجافة؟‏.‏ لاحظ أن جيله لا يقرأ إلا الصحف يعتمد علي ما يلتقطه من شذرات من الشاشة والحاسوب‏.‏
بدا العالم متسعا‏,‏ ومحيط الأفكار لا قرار له‏,‏ وأنه يتغير وإن كان الأمر ببطء ولكنه محسوس وحقيقي‏.‏
ما أرقه أن رسائلها توقفت فجأة‏,‏ يمسح الشارع في موعده اليومي دون أن يلتقط المشبك الأزرق المعتاد‏,‏ شطره قلق وارتياب واقعي حائرا لا يجيد التصرف‏.‏
وأشرقت شمس منتصف الليل بعد أسبوع التقط المشبك وفض الرسالة متلهفا‏.‏
عزيزي‏....‏
آسفة لانقطاعي‏,‏ كنت متوعكة قليلا‏,‏ لا أرغب في مضايقتك‏,‏ أعاني من ضعف حالة قلبي منذ سنوات‏,‏ وأقاوم‏.‏ أعرف أن المتبقي قليل‏,‏ وأن القادم اسوأ‏,‏ اتشبث بالأمل‏,‏ أتصدق أنني عضوة في نادي هليوبوليس منذ زمن بعيد‏,‏ ومع ذلك لم أدخله منذ سنوات‏,‏ ربما أحرص علي زيارة مدفن الأسرة بالبساتين في الذكري السنوية لزوجي وابني‏,‏ وربما ثاني أيام العيد‏:‏ لا أتابع التلفاز إلا القناة الفرنسية‏,‏ وقد انتقل بين روتانا زمان والجزيرة وبعض القنوات الدينية‏,‏ أنا مدمنة مذياع‏,‏ لا اطفئه إلا عند النوم‏,‏ وربما اتركه علي موجة البرنامج الموسيقي‏,‏ للتلفاز غوايته ولكن المذياع يطفأ ولا أخشي الموت‏,‏ لا يقلقني إلا قسوة ابنتي التي تتباعد مكالماتها الهاتفية‏,‏ لم أرها منذ خمس سنوات‏,‏ الموت يعني لقاء من احببت وفقدت‏,‏ اسأل نفسي دوما‏:‏ هل سيغفر الله أخطائي وذنوبي؟ لست شريرة ولكنني اتشكك أحيانا في الأمر‏,‏ لكن رحمة الله أكبر وأوسع‏.‏
يغمرني امتنان كبير تجاهك‏,‏ أبصرك متخفية تلتقط رسائلي بانتظام‏,‏ ويبدو أن الأمر يروق لك‏,‏ انتظامك اليومي في الحضور في نفس التوقيت‏,‏ هل يدهشك أنني كتبت نعيي واعطيته للإخصائي الاجتماعي بالدار ونقدته مبلغا كبيرا لنشره في الأهرام بعد وفاتي‏,‏ قد يكون مفاجأة لك‏.‏
لمح طيفها ذات يوم‏,‏ كانت تلقي برسالة السماء المعتادة‏,‏ صوت اغلاق النافذة استرعي انتباهه‏,‏ حركة جسدها نحو الداخل كانت مرتبكة‏,‏ تأكد من خلو الشارع من المارة‏.‏
مرت أيام منتظمة‏.‏
بات منقبضا هذه الليلة‏....‏
فترة انقطاع جديدة‏.‏ طالت هذه المرة‏..‏
أصاب بنيانه خلل‏,‏ كدر صفوه هاجس‏,‏ عدد بريد السماء‏,‏ وجد أن لديه‏32‏ رسالة صاغت عالما ملونا في حياته‏.‏
اكتشفت أنه أعاد هندسة عالمه‏,‏ بدأ يعي معني مختلفا لوجوده وحيزه اعتوره تغير‏,‏ بدا أقل تبرما وأكثر صبرا وتفاؤلا‏.‏
القاعدة شذت هذه المرة‏.‏
يوم الثلاثاء هذه المرة كان مميزا‏,‏ تلقي علي بريده الالكتروني رسالتين‏:‏ الأولي من شركة بتروكيماويات قطرية تخبره بالتعاقد معها‏,‏ والثانية من جامعة اسكتلندية ترشحه لمنحة دراسية في مجال البوليمرات‏.‏
في الليل مني بخفي حنين وهو يمر بشارعها شارع نادي النصر‏,‏ كانت النوافذ مطفأة وأغلقت مصلحة بريد السماء لأجل غير مسمي‏,‏ أنامله التي تقلب صحف الطبعة الأولي تسللت بلؤم إلي صفحة النعي بالأهرام لقومنا تقليد عريق في الاحتفاء بالموت‏,‏ فهل يحتفون بالحياة نفسها؟ وأيهما يحتاج لشجاعة أكبر الحياة أم الموت؟
بوصلته الخفية كانت صادقة ـ صورتها في أعلي الصفحة مذيلة باسمها‏,‏ الآن ميزها أدرك كينونتها وحقيقتها‏.‏ فاجأه الاسم الشهير‏,‏ وصاحبة الطلة بابتسامتها الوضاءة الشمسية‏,‏ كانت هي إذن استوقفته نهاية النعي‏,‏ اقتصر العزاء علي قراءة الفاتحة لها‏,‏ قريبة‏..‏ ونسيبة‏..‏ وصديقة عابر ليل‏,‏ كانت تقصده وتودعه هو عابر الليل‏.‏ الآن فقط امتلأ عالمه بخواء كبير‏.‏
‏..............................‏

* أستاذ أصول التربية بجامعة عين شمس‏.‏

صدرت له ثلاث مجموعات قصصيه هي‏:‏ سأعود متأخرا هذا المساء والربع الخالي وسأسميك بهاء‏.‏ قاص وناقد ويكتب للاطفال‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق